في صِغري؛ حدث أن وقع بيني وبين صديقٍ قريبٍ لي فجوةٌ وهجران؛ وفي ساعة غضبٍ قلتُ لأمي رحمها الله:( لماذا يُعاديني، وقد وقفت معه في مشكلته، وفعلتُ وفعلتُ؟!) فلم تدعني أُمّي أكمل كلامي؛ وانهالتْ عليَّ بكلام شديدٍ، أقسى من الحجارة، ومما حفظته منها:( اسكتْ، إذا فعلتَ المعروفَ فلا تمُنّ به على الناس، الرِّجالُ إذا فعلوا المعروف لا يذكرونه. الفضل لله وليس لك، آخر مرة أسمعك فيها تذكر هذا الأمر..) أما أنا فقد غُصتُ في ثيابي من الخجل، وأحسستُ بأني فقدتُ شيئاً من إنسانيتي، ولم أستطع أن أفتح فمي بكلمة. لكني كنت أتعجب من قسوتها هذه، وفي ظني أني لم أقل إلا الحق، فقد كان لي عليه شيءٌ من المعروف في تصوري أنا!. وهل يستحق الموضوع كل هذه القسوة؟!

فلما كبرتُ وطلبتُ العلمَ، هالني هذا الحديث النبوي الشريف، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ خَابُوا وَخَسِرُوا؟ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ  e ثَلَاثَ مِرَارٍ ، فَقُلْتُ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «الْمُسْبِلُ ‌وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ كَاذِباً». والمنان؟!.. من هو المنان؟! في إحدى الروايات: (‌الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ). كنت أقرأ الحديث وأرتجف خوفاً من أن يحرمني الله لذة النظر إلى وجهه، ويحرمني تزكيته، وفوق هذا العذاب الأليم؟! أيُّ عقوبةٍ أعظم من هذه؟! ولماذا؟! أَكُلُّ هذا بسبب ما ظننته معروفاً يستحق الذكر؟!..

ولما وقع لي مثلُ هذا، ووقفَ معي أحدهم مرةً في أزمةٍ عصفتْ بي، وانقطعتُ عنه خجلاً، أرسل إليَّ يُذكرني بأنه فعل وفعل من أجلي، فلم أستطع أن أذوق النوم لياليَ عديدةً، وانجرحتْ مشاعري، وعلمتُ حينها معنى الحديث، وعلمتُ أيضاً سبب ذلك التعنيف من أُمّي رحمها الله. أليس هذا أبلغ دليل على مراعاة الإسلام لمشاعر الخلق؟!.

في الناس من بلغ أقصى مراتب الرُّقي، فتراه إذا قدَّم للناس شيئاً أنكر ذاته، وأرجع الفضل كله لله أنْ سخره الله لخدمة عباده، ويعتريه الخوف والغضب إن شكره الناس، حقيقة وليس تصنعاً.

قبل سنوات طلب مني أحد الفضلاء أن يشارك بمالٍ في طباعة كتابٍ لي؛ فأردتُ على عادة بعض المؤلفين أن أكتب له إهداءً وشُكراً في أول صفحات الكتاب، فاحمرَّ وجهه، وطلب مني وهو يكاد يذوب حياءً ألاَّ أفعل هذا، ولا أذكر هذا الأمر لأحدٍ من عباد الله، حتى إني أشفقتُ عليه مما رأيت من رقته، وتغير وجهه، وتهدج صوته، وخرجتُ من عنده وقد احتقرت نفسي واحتقرت الحياة، وقلت في نفسي: موقفُه الأخلاقي هذا خيرٌ ألف مرةٍ من ألفِ كتابٍ.

ورجلٌ فاضلٌ آخر مات قبل سنوات رحمه الله؛ سعى جاهداً بكل ما استطاع من قوة، وجاهٍ، حتى استطاع أن ينقذ شخصاً من القتل قصاصاً؛ فماذا كان؟ اشتعلتْ الصحفُ والهواتفُ بشكر أشخاصٍ غيره لا ناقة لهم ولا جمل، استغلوا الحدث كعادة المنافقين، وظهروا في صورة أصحاب الفضل، فلما قيل له: لماذا لا تتكلم؟ أنت الذي سعيت حتى قضى الله العفو على يديك؟! غضبَ أشدَّ الغضب، وقال كلمةً تهتز لها الجبال، قال: إنما فعلتُ هذا لوجه الله تعالى، ولم أفعله من أجل أن يشكرني الناس في الجرائد!.