من الملاحظ أن محاربة المفاهيم الصحيحة، لا تكون فقط بنشر مفاهيم باطلة بَيِّنة البطلان؛ بل بإيجاد مفاهيم مشابهة للصحيحة؛ بحيث يكون باستطاعتها أن تَحرفها عن مسارها، وتُفرغها من مضمونها؛ كما نرى في ” مفهوم التدين” واستنساخ مفاهيم كثيرة منه.. وهي طريقة، لا شك، تنطلي على كثيرين!

والتدين مشتق من الدين. يقال: “دَانَ بِكَذَا دِيَانَةً، وَتَدَيَّنَ بِهِ فَهُوَ دَيِّنٌ وَمُتَدَيِّنٌ. ودَيَّنْتُ الرَّجُلَ تَدْيِينًا إِذَا وَكَلْتَهُ إِلَى دِينِهِ. وَالدِّينُ: الْإِسْلَامُ”([1]). فمن تَديّن بالإسلام التزم به، ووَكَلَ أمرَه إليه.

وبينما (الدين) هو: التعاليم الإلهية التي خوطب بها الإنسان على وجه التكليف، فإن (التدين) هو: الكسب الإنساني في الاستجابة لتلك التعاليم، وتكييف الحياة بحسبها في التصوّر والسّلوك. وبحسب هذا التعريف فإن حقيقة الدين تختلف عن حقيقة التدين؛ إذ الدين هو ذات التعاليم التي هي شَرْعٌ إلهي، والتدين هو التشرُّع بتلك التعاليم، فهو كسب إنساني. وهذا الفارق في الحقيقة بينهما يفضي إلى فارق في الخصائص، واختلاف في الأحكام بالنسبة لكلّ منهما([2]).

وما دام التدين كسبًا إنسانيًّا للدين، الذي هو منهج إلهي مُنزَّل؛ فلا بد أن يختلف هذا الكسب الإنساني باختلاف أفهام الناس للدين، وباختلاف سعيهم للتحقق بهذا الفهم.. ولهذا، نرى أنفسنا بإزاء صور متعددة للتدين بقدر اقترابها أو ابتعادها من الدين، أي من المنهج الإلهي المنزل.

وفي هذا المقال نستعرض بإيجاز بعض صور التدين.. لعلنا نرشد إلى صواب، أو نلفت النظر إلى خلل..

التدين السليم

هو الذي ينطلق من الدين عقيدةً وسلوكًا، ويعظِّم شعائر الله ويقف عند حدوده، ويفهم توجيهات الإسلام وقيمه ومقاصده فهمًا صحيحًا، ملتزمًا بذلك التزامًا يستوعب ما في الوسع والطاقة، من غير إفراط ولا تفريط، ومن دون إعنات ولا مشقة؛ سواء فيما يتصل بالنفس أو الآخرين.

والتدين السليم يتعامل مع الإنسان على أنه إنسان حقًّا، لا ملك ولا شيطان؛ فلا ادعاء لعصمة أو تصوّرًا لعدم وقع الخطأ، ولا إساءة ظن واتهام وتجريح.

كما أن التدين السليم يدرك أن الإسلام منهج للتعامل مع الفرد والمجتمع والأمة، وللتعامل مع الدنيا والآخرة، على السواء.. لا ينحاز لطرف على حساب آخر.. وإنما التوازن والوسطية والاعتدال..

التدين المغشوش

وهذا التعبير يكثر في كتابات الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، وهو يشير به إلى أنواع عليلة من التدين؛ حيث الفهم الخاطئ أو السلوك المعوج..!

ومن ذلك قوله: ليس الدين ستارة لتغطية العيوب، وإنما هو طهارة منها، وحصانة ضدها. وفى تجاربي ما يجعلني أشمئز من “التدين المغشوش“، وأصيح دائمًا أحذِّر عُقْباه. إن المنحرفين يسترون- بركعات ينقرونها- فتوقًا هائلة في بنائهم الخلقي وصلاحيتهم النفسية، وهم لا يظنون بالناس إلا الشر، ويتربصون بهم العقاب لا المتاب، وهم يسمعون أن شُعَب الإيمان سبعون شعبة، بيد أنهم لا يعرفون فيها رأسًا من ذنب، ولا فريضة من نافلة، والتطبيق الذى يعرفون هو وحده الذى يُقرون. والخلاف الفقهي لا يوهي بين المؤمنين أُخوّة، ولا يحدث وقيعة! وهؤلاء يجعلون من الحبة قبة، ومن الخلاف الفرعي أزمة. والخلاف إذا نشب يكون لأسباب علمية وجيهة، وهؤلاء تكمن وراء خلافاتهم علل تستحق الكشف!([3]).

التدين المنقوص

وهو عنوان أحد كتب الأستاذ فهمي هويدي، ولا يَبعد في مضمونه عن “التدين المغشوش”. يقول هويدي في مقدمة كتابه هذا: بات قدر الكاتب الذي يعلن انتماءه الإسلامي ويصرّ على أن يخوض بدينه معركة التقدم، أن يواجه في مسيرته ثلاث معارك في آن واحد. أولها: ضدّ الناقدين للإسلام، وثانيها: ضدّ المتربّصين بالعاملين في ميدان الدعوة، والثالثة: مع فصائل المتدينين أنفسهم، الذين امتلأت قلوب أكثرهم بالإيمان، ولكن وعيهم بحقائق الدين وأساليبه ومقاصده تشوبه شوائب عدّة، مما أطلقتُ عليه في أكثر من موضوع بالكتاب وصف “التدين المنقوص“([4]).

التدين العلماني

هو الذي يفهم الدين فَهْمًا علمانيًّا، أو يتبنّى في سلوكياته ما يمكن وصفه بـ”علمنة التدين”، بحسب د. المسيري. وقد سبق أن تناولتُ هذا المعنى تفصيلاً بمقال: “ما بعد الدعاة الجدد.. علمانية التدين“.

وفيه أشرت إلى أن المسيري أوضح أن “التدين” هو أحد المجالات التي تصيبها العلمانية بلوثتها؛ فهي لا تفصل الدين عن مجرى الحياة فحسب- كما هو شائع- بل تؤثر فيه، وتحرفه عن مساره الصحيح.

وبيّن المسيري أن “علمنة التدين” قد تكون بأن “يحل الإله في المؤمن، ويصبح من الممكن معرفة الإله من خلال حالة شعورية أو تجربة جمالية يخوضها الإنسان؛ أي إن الإله يصبح أمرًا خاصًّا بالقلب والضمير الشخصي (الإنساني).. ومع تزايد معدلات العلمنة يتصالح الدين والواقع، ويتماهيان؛ إلى أن يصبح الدين (واقعيًّا) يستمد معياريته من الواقع”.

وقد تكون “علمنة التدين” بخلاف ذلك بأن “يصبح التدين طريقةً لتنظيم العلاقة بين الإنسان وربه وحسب، ولا يركز المؤمن إلا على الجوهر الرباني الواحد، ويغرق في (تمارين صوفية)، محاولاً الالتصاق بالخالق والتوحد معه. ويحاول الإنسان أن يتحرر من أدران المادة ليحقق صفاءً روحيًّا”([5]).

التدين الانهزامي

أي أن يلجأ الإنسان للتدين نتيجة أزمة تصيبه، أو محنة يقع فيها.. ثم يبدأ بعد فترة من التخفف من مظاهر هذا التدين التي التزم بها، وربما في بعض الحالات يذهب إلى أبعد مدى في الاتجاه المعاكس!

والسبب في ذلك، أن التدين حينئذ لا يَنبني على اختيار عقلي ومعرفي متزن ناض؛، وإنما يكون أثرًا نفسيًّا واختيارًا عاطفيًّا، بسبب الانهزام أمام الأزمة.. فإذا ما خفتت حدة الأزمة بدأ الإنسان يراجع اختياراته، وربما يجد أنه أوقع نفسَه فيما لا بد له من التخلص منه!

التدين الانسحابي

وهو نوع من التدين العلماني الذي سبقت الإشارة إليه! فيكتفي المرء من الدين بالسلوك الفردي، غاضًّا الطرف عما في الدين من أبعاد اجتماعية، لا سيما ما قد يترتب عليها بعض المشقة.

وقد يُلْجَأ لهذا النوع من التدين إذا كانت البيئة غيرَ مشِّجعةٍ على التدين، أو محاربةً له.. فيستسهل البعضُ الجوانبَ الفردية من التدين، حينئذ.

التدين المغيَّب

وهو أثر للانحرافات التي خلَّفتها المذاهب الباطنية، والحركات الصوفية التي أوغلت في رياضتها النفسية حتى ابتعدت عن جادة الطريق، واستبدلت بالنصوص المُحْكَمة والأخبار الصحيحة أقوالاً واهية، وقصصًا باطلة، وتجارب ذوقية لا ضابط لها.. مما أحدث، لاسيما عند العامة، تدينًا مُغيَّبًا، وقبولاً للخرافات، وولوعًا بالغرائبيات، فضلاً عن مجافاة التعقل والتفكر..!

إن التدين السليم لا يمكن أن يخاصم العقل أو يُغيِّبه أو يتجاوزه، أو يسعى إلى خرافة أو وَهْم.. وإنما هو استقامة في الفكر، وصواب في الرأي، وزكاة في النفس، وصلاح في العمل.. كلُّ ذلك على هُدى وبصيرة، وبينة ووضوح.. فليس في دين الله أسرار، ولا بين الخالق والخَلق واسطة.. وأمرُ التكليف والثواب والعقاب ليس إلا بيده سبحانه.. لا ند ولا شريك ولا شفعاء: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110).

التدين المغضوب عليه

وهو التدين السليم، لكنه من زاوية من يرفضون هذا التدين: تدينٌ مغضوب عليه! مغضوبٌ عليه لأنه يوقظ في الإنسان ملكات الحرية والفكر والإرادة.. والبعض يريد إنسانًا غير ذلك! ومغضوبٌ عليه لأنه ينادي بالعدالة الاجتماعية واحترام الإرادات، وبعدم أن يكون المالُ دُولةً بين الأغنياء أو الأمرُ غصبًا وحكرًا على مجموعة بعينها.. وإنما المال مال الله، والأمر أمرُ عباده شورى بينهم؛ لا سلطان عليهم إلا شرع الله، وإلا إرادتهم الحرة التي تقرر لهم الخيار والوجهة.

وبينما هذا ما ينبغي أن يكون، فإن البعض يسوؤه هذا التدين، ويريد أن يحرفه عن مساره، وأن يفرّغه من مضامينه.. وإلا أنزل عليه الغضب والعقاب!

التدين العاجز

وهو نوع من التدين يلجأ إليه كبار السن الذين يرون أنْ ليس بينهم وبين القبر إلا أمتار معدودة؛ فليزمون المسجد ويكثرون من التعبد. ولا شك أنْ لا أحد يمكن أن يحجب الناسَ عن ربهم، ولا أن يمنع هداية الله من أن تصل للخلق على أيّ وضع كانوا.. وإنما القصد أن هذا التدين يكون بعد أن تشكَّلت القناعات، وترسَّخت في النفس أخلاقها وعاداتها؛ فلا يُؤمَّل منه كبيرُ أثرٍ في حركة الحياة!

إن الله تعالى خلق الخلق ليعبدوه، ويعرفوه طوال الوقت، وليس في الساعات الأخيرة فحسب.. ومع هذا، فلا حرج على رحمة الله وفضله، أن يصيبا من يشاء سبحانه.. وإنما الإسلام يحتاج إلى طاقات الشباب، وحيوية التدين، وانفعال النفس بالأوامر.. وهذا يستدعي أن يكون التدين منهاج حياة، وزمنًا ممتدًا بالعبادة والعمل الصالح؛ لاسيما في مرحلة الشباب والفتوة، وعند إقبال الصحة ووفرة المال.. فهنا المجاهدة الحقة، والتدين الذين يقاوم الشح والرغبات..!


([1]) لسان العرب، ابن منظور، مادة “دين”، 13/ 169.

([2]) في فقه التدين فهمًا وتنزيلاً، د. عبد المجيد النجار، كتاب الأمة، 1/ 27، 28.

([3]) مشكلات في طريق الحياة الإسلامية، الشيخ الغزالي، كتاب الأمة، ص: 119، 120.

([4]) التدين المنقوص، فهمي هويدي، ص: 5.

([5]) المقال منشور على موقع “إسلام أون لاين”. والنقل عن د. عبد الوهاب المسيري من كتابه: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، 2/ 121- 123.