من المذاهب الفقهية المعتمدة في عصر الآئمة والتدوين، والمدونة فتاوها في كتب ومصنفات مستقلة، وفقه المذهب الشافعي المنسوب إلى مؤسسه الإمام محمد بن إدريس الشافعي المطلبي، فهو المذهب الثالث من حيث الترتيب الزمني للمذاهب الأربعة الفقهية التي بقي أثرها وفتاواها يعمل بها في أرجاء المدن الإسلامية المعمورة، وظهر في أوجه ازدهار الثقافة الإسلامية في العصر العباسي، حيث اتسعت الترجمة ونقلت الفلسفة والعلوم، وتعددت العناصر المختلفة داخل المجتمع الإسلامي، وكثرت الحوادث الاجتماعية والاتجاهات الفكرية، ونجم بلاء الزندقة، واتسع نطاق الجدل والمناظرة بين أصحاب المدارس المختلفة، لا سيما مدرسة أهل الحديث وأهل الرأي.

فكان الإمام الشافعي في عجاج هذه الفتن كالشمس للدنيا، والمنجد من حر الرمضاء، فأوضح ما استشكله الناس، وكشف ما أغلق عليهم، حتى قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف، أو عنهما من عوض، فكان أحمد يدعو للشافعي في صلاته. ولما لهذا العالم الفذ من الأثر الجميل في تاريخ الفقه الإسلامي، نذكر موجزا عن ترجمته وعن المذهب الشافعي من حيث النشأة والتطوير الفقهي  وأثره في الفكر الإسلامي.  

الإمام الشافعي الفقيه الرحال

هو عالم العصر، ناصر الحديث، فقيه الملة، الإمام أبو عبد الله محمَّد بن إدريس بن العبَّاس بن عثمان بن شافع بن السَّائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هشام بن المطَّلب بن عبد مناف المطَّلبيُّ القرشيُّ، ينتهي نسبه إلى عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الذهبي: نسيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن عمه، فالمطلب هو أخو هاشم والد عبد المطلب.

 اتفق مولد الإمام بغزة، ومات أبوه إدريس شابا، فنشأ محمد يتيما في حجر أمه، فخافت عليه الضيعة، فتحولت به إلى محتده وهو ابن عامين، فنشأ بمكة، وأقبل على الرمي، حتى فاق فيه الأقران، وصار يصيب من عشرة أسهم تسعة، ثم أقبل على العربية والشرع، فبرع في ذلك، وتقدم. ثم حبب إليه الفقه، فساد أهل زمانه.

عاش الشافعي فترة الشباب فقيرا رقيق الحال ضيق العيش، حتى احتاج وهو يطلب العلم إلى جمع قطع الخزف (الفخار) وقطع الجلود وسعف النخل وعظام الجمال ليكتب عليها وكان يذهب إلى الدواوين ويستوهب أهلها أوراقا ليكتب عليها[1]. ولعل نال الشرف في السبق بالعلم بسبب رقة الحال وتحمل الصعاب وهذا يصدق عليه ما نسب إلى الإمام مالك، أنه قال: لولا أبناء الفقراء لضاع العلم. لأن الفقير ليس له غنية عن العلم فهو شغله الشاغل لذلك يجتهد فيه ويدرك دقائق العلم.

رحلات الإمام الشافعي في طلب العلم

من شدة اهتمام الشافعي بالعلم وتحصيله فإن حياته العلمية مرت بمراحل متعددة يتميز كل منها بحالة دون غيرها، وهذا ما نجد بارزا في حياة الإمام الشافعي لم يقع للذين سبقه من أئمة المذاهب، وكان لهذه الرحلات أثر على فقهه واجتهاداته، ويمكن اختصار هذه المراحل فيما يأتي:

1 – التنقل بين مكة والمدينة، مكث الإمام الشافعي مدة يدرس على شيوخها وعلمائها، وأخذ الفقه والحديث عليهم، ومن أبرز هؤلاء: سفيان بن عيينة (ت 198هـ) من كبار تابعي التابعين، ومسلم بن خالد الزنجي (ت 179هـ) فقيه مكة ومفتيها وغيرهما.  ثم انتقل إلى المدينة والتزم بإمام دار الهجرة، الإمام مالك رحمه الله تعالى، اتفق أهل التاريخ على طول ملازمته للإمام مالك لا سيما في السنوات الأخيرة قبل وفاة الإمام مالك، فقرأ عليه (الموطأ) بعد عرضه أكثر ما فيه من حفظه، ولزم درسه. والتزم بعلماء آخرين كذلك ممن استوطنوا المدينة.

2 – الانتقال إلى اليمن، وذلك بعد وفاة شيخه الإمام مالك، ورجوعه إلى مكة، انتقل منها إلى (اليمن)، وأخذ عن بعض علمائها، وعمل فيها ولاية عامة حمد عليها، ثم كاده فيها بعض الحساد، فسعوا في أمره حتى رفع إلى العراق، متهما بالسعي مع العلويين للخروج على الخلافة العباسية[2].

ومما يذكر في قصة تولي الإمام الشافعي على عمل في اليمن، أنه حين نزل باليمن عرض عليه عمل في نجران ، وظهر فيه عدله واستقامته، فضايقه بعض أهالي المكان يقول الشافعي: (كان الوالي إذا أتاهم صانعوه، فأرادوني على مثل ذلك فلم يجدوا عندي). وحدث أن خرج تسعة من العلويين في اليمن على الخلافة، واتهم الشافعي بأنه معهم، فأمر هارون الرشيد بإحضار الخصم، وطلب التحول من اليمن إلى بغداد.

3 – الدخول إلى بغداد، أجبر الإمام الشافعي على مغادرة اليمن ميجها إلى بغداد عام 184هـ، وهناك شفع له الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة عند الهليفة الرشيد. وقد لازم في بغداد محمد وتأثر به جدا وعده أستاذه الثاني بعد مالك رحمه الله تعالى.

4 – العودة إلى مكة ، فقد غادر الإمام الشافعي بغداد بعد وفاة شيخه محمد بن الحسن (189هـ) وتوجه إلى مكة وأقام فيها مدة طويلة، وعقد فيها مجلسه العلمي الذي عرف به وانتشر فيه مذهبه الفقهي الذي يجمع بين فقه أهل المدينة، وفقه أهل العراق.

5- الرجوع إلى بغداد، رجع في عام (195هـ) إلى بغداد فعقد حلقته الفقهية ودون مذهبه وألف كتاب الحجة في الفقه، وكتاب الرسالة في الأصول، وهذان الكتابان يعرفان بالمذهب القديم.

ومن أبرز تلاميذه في العراق: أبو ثور الكلبي ، أبو علي الكرابيسي والحسن الزعفراني.

6 – استقراره في مصر، بعد تنقله بين العواصم الإسلامية الكبيرة آنذاك، تاقت نفسه للذهاب إلى مصر، فرحل إليها عام (199هـ) واستوطنها ناشرا ومدونا فيها مذهبه الجديد في الفقه والأصول، وكان ذلك خلال السنوات الأربع التي قضاها فيها. ووضع هذا المذهب الجديد الذي اختاره في مصر بسبب تغير الأوضاع والعادات وضمنه كتابه “الأم”.

وبقي في مصر حيث كانت محطته الأخيرة، وكانت وفاته بها، سنة (204هـ) عن أربع وخمسين سنة.

ثناء العلماء على الإمام الشافعي

قال فيه شيخه ابن عيينة: أفضل فتيان زمانه، وكان إذا أتاه شيء من الفتيا أو التفسير أحال عليه.

وعن يونس بن عبد الأعلى، قال: ما كان الشافعي إلا ساحرا، ما كنا ندري ما يقول إذا قعدنا حوله، كأن ألفاظه سكر ، وكان قد أوتي عذوبة منطق، وحسن بلاغة، وفرط ذكاء، وسيلان ذهن، وكمال فصاحة، وحضور حجة.

وقال إسحاق بن راهويه: ما تكلم أحد بالرأي – وذكر جماعة من أئمة الاجتهاد – إلا والشافعي أكثر اتباعا منه، وأقل خطأ منه، الشافعي إمام

أما عن قلة روايته للحديث، فقد قال فيه أحمد بن حنبل: كان أفقه الناس في كتاب الله وسنة رسوله، قليل الطلب للحديث.

ووثقه أبو داود والرازي من المحدثين في مروياته حتى قال الذهبي: هذا من أدل شيء على أنه ثقة، حجة، حافظ، وناهيك بقول مثل هذين.

قواعد المذهب الشافعي

قال الشافعي: الأصل قرآن أو سنة، فإن لم يكن، فقياس عليهما، وإذا صح الحديث فهو سنة، والإجماع أكبر من الحديث المنفرد، والحديث على ظاهره، وإذا احتمل الحديث معاني، فما أشبه ظاهره، وليس المنقطع بشيء، ما عدا منقطع ابن المسيب، وكلا رأيته استعمل الحديث المنفرد، استعمل أهل المدينة..

وجاء في المدخل للبيهقي: قال الشافعي في كتاب اختلافه مع مالك: ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر على مَنْ سمعه مقطوع إلا بإتيانه، فإن لم يكن ذلك صرنا إلى أقوال الصحابة أو واحد منهم، ثم كان قول الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان إذا صرنا إلى التقليد أحب إلينا، وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة.

وقال أيضًا: إذا قال الواحد منهم القول لا يحفظ عن غيره له موافقة ولا خلاف، صرت إلى اتباع قوله إذا لم أجد كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا ولا شيئًا في معناه يحكم له بحكمه أو وُجِدَ معه قياس.

تكوين المذهب الشافعي وأطواره

يظهر لنا مما سبق أن المذهب بدأ في الظهور في طوره الأول خلال زيارة الشافعي الثانية إلى بغداد سنة (195هـ) وفيها ظهر مذهبه القديم مستقلا عن اجتهادات شيخه الإمام مالك، وتوجد هذه الآراء في كتابيه الحجة والرسالة القديمة العراقية في الأصول، ثم نقح هذا المذهب وحرره وأملاه على طلابه المصريين منهم البويطي والمزني والربيع المرادي وغيرهم في مصر، وهو المذهب الجديد، وتمثله في كتابيه الأم في الفقه، ولرسالة الجديدة المصرية في أصول الفقه.

وبعد وفاة الإمام الشافعي نقل الطلبة مذهبه وانتشر روايته، ونقلوه في مؤلفاتهم وعرفوه غيرهم من أصحاب المذاهب الفقهية.

ثم خدمت العراقيون والخرسانيون المذهب الشافعي خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين، قال النووي: واعلم أن ‌نقل ‌أصحابنا ‌العراقيين لنصوص الشافعي وقواعد مذهبه ووجوه متقدمي أصحابنا أتقن وأثبت من نقل الخراسانيين غالبا والخراسانيون أحسن تصرفا وبحثا وتفريعا وترتيبا غالبا[3].

من أسباب انتشار فقه المذهب الشافعي

وجاء في الفكر السامي: أن سبب انتشار مذهب الشافعية، أن الإمام الشافعي صادف معركة هائلة واقعة بين مذهب أهل العراق والحجاز في مسألة تقديم الرأي على السنة أو العكس، ووجد مذهب الحنفية آخذًا في الظهور بالعراق وما وراءه، وفي عاصمة الإسلام العظمى بغداد، والخلفاء يدينون به، وقاضي القضاة لهم أبو يوسف.. . ووجد مذهب مالك وأنصار الحديث آخذًا في مزاحمته، متغلبًا مع ظهور الدولة الأموية بالأندلس وما قرب منها، ولا يُولَّى قاضٍ هناك إلّا بإشارة يحيى بن يحيى الليثي الذي كان رأس علماء الأندلس، وقاضي القيروان أسد بن الفرات كذلك ينشره..

وبموازاة ذلك معركة أخرى بين المحدثين وأتباع المذهبين في الاحتجاج بحديث دون آخر.

وعاب  على المالكية في تركهم بعض الأحاديث الصحيحة لعمل أهل المدينة، كما عاب هو العمل بالمرسل إذ تبيَّن من الفحص أن بعض المراسيل لم تصح؛ لأن مالكًا بنى مذهبه في الاحتجاج بالمرسل كالحنفية على حسن الظن بالتابعين. وأنهم لا يقولون: قال رسول الله إلّا إذا سمعوه من صحابي, والصحابة كلهم عدول، ثم تبيَّن أن بعض التابعين سمع بعض المراسل ممن دون الصحابي ممن هم مجروحون.

كما وجد الشافعي لأئمة الحديث الظهور العظيم، كأحمد، وإسحاق، وابن المديني، وابن معين، وابن مهدي، ونظرائهم، جمعوا السنة المتفرقة في الأقطار، وأوعبوها جمعًا وحفظًا ونقدًا.

فتلطَّف الشافعي في انتحال طريقة تجمع الفكر العام أو فكر الجمهور على الأقل, فأسس أصلًا وهو الأخذ بالسنة مهما توفّرت شروط الأخذ بها، وهي الاتصال وثقة الرواة.

 فالتف حوله أهل الحديث الذين كان لهم الكلمة العليا وهو أنصار السنة، حتى إنهم سموه في بغداد: ناصر السنة، قال الزعفراني: كان أصحاب الحديث رقودًا حتى جاء الشافعي فأيقظهم فتيقظوا.

وأخذ بالقياس فيما لم يكن فيه نصّ، فربح غنيمة المعركتين معًا، واستمال كثيرًا من أهل الفئات الثلاث، ووقع له ظهور عظيم بنشره لكتبه ومذهبه في العراق ومكة بنفسه، ثم بمصر أيضًا[4].

أسس من خلال هذا العمل ما يطلق عليه اليوم بعلم أصول الفقه، وكان سباقا إلى ذلك بفضل الجمع بين مذاهب أهل الحديث وأهل الفقه.


[1]  الأئمة الأربعة .. الشرباصي (122). سير أعلام النبلاء (10/11).

[2]  المذاهب الفقهية الأربعة أئمتها – أطوارها – أصولها – وآثارها (123).

[3]  المجموع شرح المهذب (1/69).

[4]  الفكر السامي (1/472).