الخلود مبتغى ينشده كل إنسان، ويتمناه كل هالك؛ لأن الأعمار يسيرة مهما طالت، وقد وسوس الشيطان لآدام وحواء بالخلود فدلاهما بغرور على شجرة في الجنة زعم أن من أكل منها فإنه يخلد، قال تعالى:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ} سورة طه الآية ( 120).

فكيف يحصل المرء هذا المبتغى، فيخلد معنى وإن لم يخلد مبنى؟

مما لا شك فيه أن ذكر المرء بعد موته يعتبر عمرا آخر يضاف إلى عمره،  ويعتبر خلودا له في هذه الدنيا وإن رحل عنها بجسده.

ولذا فإنك قد تجد من مات قبل مآت السنين، لكنه لا يزال يذكر وكأنه يعيش بين الناس، حاضر في مجالسهم، وأنديتهم وأوصاله تحت التراب رميم.

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها …*… بصنائع المعروف والاحسان

من نال رفع الذكر عاش مخلدا …*… فالذكر للإنسان عمـــــر ثاني

تدوالت وسائل التواصل قبل أيام خبرا حول سفير دولة إفريقية: أنه قال لأمير دولة الكويت: جِئتُ لأقول لسموّكم بأنني أحدُ الأيتام الذين رَعاهم الدكتور عبدالرحمن_السميط وبسببهِ واصلتُ تعليمي إلى أن نِلت الدكتوراه وها أنا اليوم سفير لبلادي في بلدِكُم.

وسواء صح هذا الخبر أو لم يصح، فإن الشيخ عبد الرحمن السميط رحمه الله، ممن أبقوا ذكرا حسنا بعد رحيلهم، وقد توفي قبل خمس سنوات، لكن لا يزال اسمه يتردد ويذكر بجميل أفعاله.

إن قيل مَاتَ فَلم يمت من ذكره … حَيّ على مــــــــــر اللَّيَالِي بَاقِي

مما يذكر عنه رحمه الله: أنه رعى: 9500 يتيم، وحفر 2750 بئرا ارتوازية، ومئات الآبار السطحية في مناطق الجفاف في إفريقيا، كما أنه بنى 124 مستشفى، ووزع أكثر من 51 مليون نسخة من المصحف، ودفع رسوم الدراسة عن 95 ألف طالب فقير ووو.

وهذه الأعمال الجليلة لا تموت وإن مات فاعلها.

وأفضل الناس ما بين الورى رجل ** تقضى على يده.. للناس حاجات

لا تمنعن يد المعروف عن أحـــــد ** ما دمت مقتــــدراً.. فالدهر هبات

واشكر فضائل صنع الله إذا جعلت ** إليك لا لك عند الناس حاجـــــات

قد مات قوم وما ماتت مكارمـــهم ** وعاش قوم وهم في الناس أموات

أعمال البر وصنائع المعروف من أسباب خلود المرء وذكره بعد موته وكأنه ما يزال حيا بين الأحياء.

كثير ممن ماتوا منذ ألاف السنين لا يزال ذكرهم في المجالس وصداهم أقوى من صدى الأحياء.

ورب حي رخام الأرض مسكنه ** ورب ميت على أقدامــــــه انتصبا

ومن أسمى الغايات في هذه الحياة أن يكون للإنسان ذكر حسن في حياته، وبعد مماته، وهو ما دعا به إبراهيم الخليل ربه عندما قال: (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) سورة الشعراء الآية: (84)

فهو يسأل ربه أن يجعل له في الناس ذكراً جميلاً وثناءً حسناً باقياً فيمن يجيء بعده من القرون كما يقول شيخ المفسرين محمد بن جرير الطبري.

وقد أجاب الله دعاءه كما في قوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) سورة الصافات (108). يقول القرطبي: أي تركنا على إبراهيم ثناء جميلا في الأمم بعده ، فما من أمة إلا تصلي عليه وتحبه … إذ ليس أحد يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو يصلي على إبراهيم وخاصة في الصلوات ، وعلى المنابر التي هي أفضل الحالات وأفضل الدرجات.

وقال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنويرأن إبراهيم :” سأل بقاء ذكر له حسن في الأمم والأجيال الآتية من بعده. وهذا يتضمن سؤال الدوام والختام على الكمال وطلب نشر الثناء عليه وهذا ما تتغذى به الروح من بعد موته لأن الثناء عليه يستعدي دعاء الناس له والصلاة عليه والتسليم جزاء على ما عرفوه من زكاء نفسه.

وقد جعل الله في ذريته أنبياء ورسلا يذكرونه وتذكره الأمم التابعة لهم ويخلد ذكره في الكتب. قال ابن العربي: «قال مالك: لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحا ويرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله وهو الثناء الصالح» ، وقد قال الله تعالى: وألقيت عليك محبة مني [طه: 39] ، وهي رواية أشهب عن مالك رحمه الله”.

ومن عاجل بشرى المؤمن ثناء الناس عليه وتحدثهم بجميل أفعاله قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل الخير ويحمده الناس عليه ، وفي رواية يحبه الناس عليه، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن.. رواه مسلم.

ومما نقل عن بعض أهل الفضل أنه كان إذا عذله أهله ولاموه في إنفاقه لماله في أوجه البر والإحسان على الفقراء والمساكين والضيفان يلاطفهم فِي الْجَواب ويخاطبهم بِهَذَا الْخطاب.

وعاذلة قَامَت بلَيْل تلومـــــني …   كَأَنِّي إِذا أَعْطَيْت مالى أضيمـــها

أعاذل إِن الْجُود لَيْسَ بمهلكي …  وَلَا مخلد النَّفس الشحيحة لؤمها

   وتذكر أَخْلَاق الْفَتى وعظامه …  مغيبة فِي اللَّحْد بَال رميـــــــــــمها

قيل لبعض الحكماء: ما أمد الأشياء؟ قال أن يبقى للإنسان أحدوثة حسنة.. يقول ابن دريد في مقصورته:

وإنما المـــــرء حـــــديث بعده ** فكن حديــــثاً حسناً لمــــــــن وعى.