مكثت أم المؤمنين عائشة الطاهرة المطهرة رضي الله عنها مع رسول الله تسع سنين، وأشغلت حافظتها القوية وذهنها الثاقب طيل ذلك الوقت لإيداع التراث النبوي العلمي، ثم قامت بواجب التربية ونشر العلم ثماني وأربعين سنة بعد وفاة عليه الصلاة والسلام بلا انقطاع ولا كلل، ولعل هذا التفرغ التام في رعاية الأمة والتصدر للتعليم وقصر نفسها عليه من حكم عدم إنجابها رضي الله عنها، وكفى لها منقبة وفضلا وشرفا أن تكون أُما للمؤمنين وأُما لخير الأمم!

وسئل أبو العباس ابن تيمية عن خديجة وعائشة أمي المؤمنين ايهما أفضل؟ فأجاب بأن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام ونصرها وقيامها في الدين لم تشركها فيه عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وتأثير عائشة في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها مما تميزت به غيرها[1]

جزم الإمام الزهري القول بأنه:” لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أزواجه، وعلمِ جميع النساء، لكان علمُ عائشة أفضل “. [2]

ولقد رأت أم المؤمنين وسمعت وروت ما لم يرويها أحد عن النبي سواها لا سيما فيما يتعلق بأفعاله عليه الصلاة والسلام الخاصة، فصارت خزانة العلم المعول عليها وعمدة ومرجعة لأفاضل عصرها في حل المسائل المشكلة. 

وتظاهرت الدلائل القوية على تبحر أم المؤمنين في العديد من العلوم النافعة، ومن أشهرها:

الفقه الإسلامي

كانت أم المؤمنين من كبار فقهاء الصحابة، ولها تحريرات فقهية دقيقة مستنبطة من معين الكتاب والسنة، وكان الشعبي يذكرها فيتعجب من فقهها وعلمها، ثم يقول ما ظنكم بأدب النبوة[3]

قال ابن كثير رحمه الله: “وقد تفردت أم المؤمنين عائشة بمسائل عن الصحابة لم توجد إلا عندها، وانفردت باختيارات أيضًا وردت أخبار بخلافها بنوع من التأويل[4]

قال الزركشي: إن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب كانا يسألانها في مسائل فقهية عديدة.[5]

وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس[6]

وقال الذهبي: عائشة أم المؤمنين.. أفقه نساء الأمة[7]

علم الفرائض

فقه المواريث من جوهر العلم وروي أنه نصف العلم وأنه أول علم ينسى وينزع، وبه يعرف نصيب كل وارث من تركات التي خلفها الميت، وقد تولى الله تعالى تقدير الفرائض بنفسه ثم علم ذلك من شاء من عباده العلماء الأجلاء، وفي مقدمتهم أم المؤمنين عائشة، وقد شهد بمنزلتها في هذا العلم أهل عصرها.

قال المقداد بن الأسود :” ما كنت أعلم أحدًا من أصحاب رسول الله أعلم بشعر ولا فريضة من عائشة.[8]

قال عروة بن الزبير: ما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله ولا بسنة عن رسول الله ، ولا بشعر، ولا فريضة من عائشة رضي الله عنها[9].

وعن أبي الضحى، عن مسروق قال: قلنا له: هل كانت عائشة تحسن الفرائض. قال: والله لقد رأيت أصحاب محمد -- الأكابر يسألونها، عن الفرائض[10].

الشعر العربي

كان الشعر مصدرا من مصادر التفقه في الدين لكونه ديوان العرب الذي لا يستغي عنه أهل العلم والاجتهاد، وله دور عظيم في فهم الكتاب والسنة وفي تهذيب النفس وفي التعبير وإيصال المعاني، وقال عليه الصلاة والسلام:” إن من الشعر لحكمة”[11]، ولهذا روت أم المؤمنين الأشعار الحسنة وتستشهد بها، وكانت تقول: “الشعر منه حسن ومنه قبيح، خذ بالحسن ودع القبيح، ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارا منها، القصيدة فيها أربعون بيتا، ودون ذلك”[12]

وقالت أيضا: “رويت للبيد نحوا من ألف بيت” [13]

وقال محمد بن عمر: ربما روت عائشة القصيدة ستين بيتًا والمائة بيت.[14]

وقال أبو الزناد: ما رأيت أحدًا أروى لشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك يا أبا عبد الله! قال: وما روايتي في رواية عائشة، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا. [15]

وكانت تحث وترغب تلاميذها على تهذيب ألسنة أولادهم بالشعر فتقول: “روُّوا أولادَكم الشعرَ تعذُب ألسنتهم”.[16]

وكذا بلغت أم المؤمنين الغاية القصوى في التمكن من علم اللغة والأدب والشعر فأصبحت من فصحاء العرب. 

قال الذهبي عنها: ولها حظٌ وافرٌ من الفصاحة والبلاغة مع ما لها من المناقب رضي الله عنها.[17]

وقد تواترت أقوال الناس بذكر روعة بيان وفصاحة أمنا عائشة مع سلاسة الألفاظ وثراء المعاني، حتى قال الأحنف بن قيس: “سمعت خطب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، والخلفاء إلى يومي هذا، فما سمعت من فم مخلوق أفخم ولا أحسن من فم عائشة[18]”.

وعن موسى بن طلحة قال: “ما رأيت أحدا أفصح من عائشة”[19]

ودخل معاوية عليها فكلمها، فلما قام معاوية اتكأ على يد مولاها ذكوان فقال: والله ما سمعت قط أبلغ من عائشة ليس رسول الله .[20]

وأيضا كانت عالمة بحديث العرب ورائدة فيه، وأبوها أبو بكر إمام في هذا المجال بلا منازع فتخرجت عائشة على يديه حتى قال هشام بن عروة: ما رأيت أحدا من الناس أعلم.. بحديث العرب ولا النسب من عائشة.[21]

الطب

علم الطب علم كريم وعزيز، سماه الإمام الشافعي علم الأبدان، وعده ثلث العلم، وكان يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب ويقول:” ضيعوا ثلث العلم، ووكلوه إلى اليهود والنصارى[22] وقال أيضا: “لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه”. [23]

وقد اعتنت أم المؤمنين بمجال الطب أيما اعتناء واهتمت بتعلمه وتجاربه حتى أتقنته وتميزت به بين أهل عصرها، مما جعل عروة بن الزبير يتعجب من مهاراتها الطبية ويقول لها مستفسرا: “يا أمتاه! لا أعجب من فقهك أقول: زوجة نبي الله وابنة أبي بكر. ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس أقول: ابنة أبي بكر وكان أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو ومن أين هو أو ما هو؟!

قال: فضربت على منكبه وقالت: أي عرية -تصغير عروة- إن رسول الله كان يسقم عند آخر عمره أو في آخر عمره، وكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات وكنت أعالجها له فمن ثم” وفي رواية “أسمع الناس تنعت بعضهم، فأحفظ”[24]

 وكان عروة يقول: “ما رأيت أحداً أعلم بالطب من عائشة”[25].

قال أبو عمر بن عبد البر: إن عائشة كانت وحدية بعصرها في ثلاثة علوم: علم الفقه وعلم الطب وعلم الشعر.[26]

الفتوى

قدّم أبو محمد ابن حزم أم المؤمنين عائشة على الصحابة المكثرين من الفتاوى في الأحكام، وعدها الإمام ابن القيم من أئمة الفتوى السبعة المكثرين، ورأى العلماء أنه يمكن جمع فتاوى عائشة رضي الله عنها في مجلد كبير لكثرتها.

وعن القاسم بن محمد قال: “كانت عائشةُ قد استقلَّت بالفتوى في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وهلم جرًّا، إلى أن ماتت يرحمها الله[27].

وكانت أم المؤمنين بحق مرجعا عاليا جدا يرجع إليه في الإفتاء، لا سيما عندما النوازل والمسائل العويصة التى تتطلب الحل الشرعي، وكم نفع الله بفتاواها الأمة وكشف بها الغمة

وعن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه قال: “ما أُشكل علينا -أصحابَ محمد- أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علم”[28]

 ومن أمثلة ذلك أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة رضي الله عنها: إن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي، وقد بعثت بهديي فاكتبي لي بأمرك. ” فقالت عائشة رضي الله عنها ليس كما قال ابن عباس، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله بيدي ثم قلدها رسول الله بيديه ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله شيء أحله الله له حتى نحر الهدي”.[29]

وأشار الإمام الزهري إلى مدى تأثير هذه الفتوى في حل المشكلة القائمة بين الناس، وقال:” أول من كشف الغمى عن الناس وبين لهم السنة في ذلك عائشة رضي الله عنها… فلما بلغ الناس قول عائشة هذا أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس”[30]

وكان يفد إليها طلاب العلم وأهل الفضل من جميع أنحاء العالم الإسلامي لاستفتائها وسؤالها وهي في حجرتها وخدرها مجيبة عن أسئلتهم.

تقول عائشة بنت طلحة وهي من الملازمين لأم المؤمنين “كان الناس يأتونها من كل مصر، فكان الشيوخ ينتأبوني لمكاني منها، وكان الشباب يتأخوني، فيهدون إلي ويكتبون إلي من الأمصار، فأقول لعائشة: يا خالة هذا كتاب فلان وهديته، فتقول لي عائشة ((أي: بنية فأجيبيه وأثيبيه”[31]

قال ابن حجر في الفتح عن أمنا عائشة: «أكثَرَ الناسُ الأخذَ عنها، ونقلوا عنها من الأحكام والآداب شيئاً كثيراً، حتى قيل أن ربع الأحكام الشرعية منقولٌ عنها رضي الله عنها» [32]

ومن ورعها أنها كانت تسند الأمر إلى أهله فيما لا علم لها فيه، كما فعلت مع سائل عن صلاة الركعتين بعد العصر فأحالته إلى أم سلمة، وكذا أحالت سائلا على ابن عمر في مسألة لبس الحرير، ولما جاء إليها شريح بن هانئ سائلا عن المسح على الخفين، قالت له: “عليك بابن أبي طالب فسله، فإنه كان يسافر مع رسول الله ”.[33]

الحديث الشريف

إن حياة عائشة رضي الله عنها مضرب المثل في السنة النبوية وهي ركن متين ومصدر من مصادر السنة، وقد انفردت بنطق بعض أحوال النبي ما لم يشاركها فيه أحد من الأمة، وهي أكثر نساء الأمة حديثا عن رسول الله .

قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: ما رأيت أحدا أعلم بسنن رسول الله… من عائشة[34] رواية ودراية.

عن محمود بن لبيد قال: كان أزواج النبي يحفظن من حديث النبي كثيرا، ولا مثلا لعائشة وأم سلمة [35].

  قال ابن كثير عن روايتها “ولم ترو امرأة ولا رجل غير أبي هريرة عن رسول الله من الأحاديث بقدر روايتها رضي الله عنها” [36].

واشتهرت أم المؤمنين بالدقة والتحري في الرواية والدراية، فقل أن تسمع حديثا لا تعرفه أو خطأ حديثيا، إلا وتحقق وتتثبت أو تصحح وتنكر وتستدرك وفق ما تقتضيه الأدلة الثابتة لديها.

وقد ضمنت دواوين السنة النبوية من رواياتها (2210) حديثا، ونصيب الصحيحين منها (299) حديثا.  

قال الذهبي رحمه الله: “اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين حديثًا، وانفرد مسلم بتسعة وستين حديثًا[37]

 وجل رواياتها داخل في عموم أبواب الدين؛ في العقيدة والعبادة والمعاملة والجهاد والأخلاق والآداب والأحداث وغيرها .

وهي – أي أم المؤمنين- مع ذلك تعد من أعلم الناس بالتفسير في عصرها ومن القراء الكبار، يقول عروة :”ما رأيت أحداً أعلم بالقرآن… من عائشة ” لأن لسانها – خاصة مع النبي عليه الصلاة والسلام -دائما سؤول عن أي شيء أشكل عليها في القرآن، ثم ضبطت بقلب عقول وفؤاد غير ملول فنالت شرف القرآن رضي الله عنها.


[1] الفتاوى الكبرى 5/379

[2] موطأ مالك 1/45

[3] سير أعلام النبلاء 2/ 197

[4] البداية والنهاية 8/ 92

[5] أعلام النساء 3/105

[6] رواه الحاكم 4 /15

[7] الكاشف (7038)

[8] العقد الفريد 6/124

[9] مصنف ابن أبي شيبة 5/276

[10] رواه الدارمي (2859)

[11] ينظر جامع الترمذي (2845)

[12] الأدب المفرد (866)

[13] سير أعلام النبلاء 2/ 140

[14] الطبقة الكبرى 8/58

[15] الاستيعاب 4/1883

[16] العقد الفريد 6/124

[17] تاريخ الإسلام 2/507

[18] مستدرك الحاكم )6732)

[19] رواه الترمذي  (3819)

[20] سير أعلام النبلاء 3/457

[21] تذكرة الحفاظ 1/25

[22] المصدر السابق 8/258

[23] المصدر السابق

[24] رواه أحمد  (24425)

[25] سير أعلام النبلاء 3/456

[26] الاستيعاب 4/1881

[27] الطبقات الكبرى 2/286

[28] رواه الترمذي  (3818)

[29] رواه البخاري. رقم (1700)

[30] سنن البيهقي الكبرى  9971))

[31] الأدب المفرد (1118)

[32] فتح الباري 7 /107

[33] صحيح مسلم (276)

[34] الطبقات الكبرى لابن سعد  2 /375

[35] الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 375

[36] البداية والنهاية 8/ 99

[37] سير أعلام النبلاء