«الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الأمَّهَات؛ مَن شِئن أدخلن، ومَنْ شِئن أخْرَجن» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. الأُمّ هي أقدس الأحياء وأَنفَسَهم، وهيَ النجم المُقدَّس الذي تُستضاءُ به الحياة، وهيَ الفَلَك الأقدس الذي تدور حوله شُهُب الرحمة ومَجرَّات الحنان، إنها مُربِّية الأجيال وصانعة الأبطال، وهيَ النّبع الذي تُستمدُّ منه أسمى مبادئ الحياة، وهيَ أفضل كِتابٍ مقروء، لأنه كتاب الكون! كثيراً ما كُتب عن الأمومة. وكثيراً ما قيل. ولكن دون مبالغة، وبعيداً عن الدراميات، أليس في “الرُوح” (لا القلب) ما هو أكثر عن الأم ذاك النهر الجاري بدموع الحب؟

لا عجب عندما نسمع أن كثير من الفلاسفة والأدباء والشعراء حاولوا سرد ما تعنيه الأمومة. حاولوا قول ما يعجز البعض عن قوله. كتبوا عن علاقة عشقية-إنسانية امتزجت فيها مشاعر متناقضة. فكما في الأمومة الأمان. كذلك فيها الخوف. خوف دائم على قلبها الزجاجي ، يقول أحد الفلاسفة:” مهما صَغُرَت الدنيا، فالأم تظلُّ كبيرة! ويقول أحد العظماء: لوْ كان العالَم في كفّة وأمّي في الكفّة الأخرى؛ لاخترتُ أمّي”. ويهتف آخَر:” حُب الأمّ هو الثروة الباقية!”.. ويعترف ثالث:” تستطيع أن تشتري كلَّ شيء إلاَّ الأم”. ويتوسَّل رابع تحت أقدام أمهِ، قائلاً:” حينما أنحني لأُقبِّل يديْكِ، وأسكب دموعي عند قَدمَيْكِ، وأستجدي نظرات الرضا من عينيكِ؛ حينها فقط أشعر باكتمال رجولتي!”.. ويتضرَّع خامس صارخاً:” يا مَن تحت قدميكِ جنتيَ؛ اعذريني إنْ كنتُ قد قَصّرتُ معكِ يوماً”.

أما عن الأدباء فتحدث الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس عن مشاعره تجاه أمه قائلاً:”إن أمي لا يمكن أن تكون كبقية الأمهات. وبدأتُ أراها كبيرة -كبيرة جدًّا- إنها ليست مجرد أم، لا. وبدأت أذيب نفسي لألحق بها في نشاطها، لأرتفع إليها.. لم أستطع، كلما ارتفعت خطوة، رأيتها أكثر ارتفاعًا مما كنت أظنّ. أمي صنعتني بيديها كما صنعت مجدها بيديها”.. وفي موضع آخر يقول إحسان عبدالقدوس لقد استطاعت أمي الجمع بين العمل الشاق كصحفية وواجبتها كزوجة وأم ، ولا شك أن شخصيتها أثرت في عشرات الروايات والقصص التي كتبتها وتحولت لأيقونات بارزة في السينما المصرية، حتى أنه أهداها روايته الشهيرة “في بيتنا رجل”، قائلاً “إلى السيدة صاحبة المدرسة التي علمتنا الثورة، إلى أمي، وأم كل الثائرين من أجل الحق والحرية، إلى السيدة فاطمة اليوسف”..”الشخطة منها كانت تُعلم.. ولا تهنش الكرامة”.

ويقول الأديب المصري العالمي الفائز بجائزة نوبل في الآداب نجيب محفوظ عن الأمومة “المستهين بقدرات النساء أتمنى أن تُعاد طفولته من غير أُم”.. ويستطرد الأديب نجيب محفوظ “كانت أمي سيدة لا تقرأ ولا تكتب، كانت تعشق الحسين وتزوره باستمرار، وفي الفترة التي عشناها في الجمالية كانت تصحبني معها في زياراتها اليومية، وعندما انتقلنا إلى العباسية كانت تذهب بمفردها، فلقد كبرت أنا ولم أعد ذلك الطفل المطيع، ولم يعد من السهل أن تجرني وراءها”.

لذلك لم يكن غريباً أن تحتل شخصية الأم دوراً بارزاً في روايات صاحب نوبل، حيث أشار إليها بالأم من دون أن يسميها في روايته “بداية ونهاية”، حيث الأم الشخصية المحورية التي يجتمع حولها الأبناء، بعد أن فقدوا الأب، ويكون معاش الأب الزهيد سبيلهم لمواجهة صعاب الحياة، وينطلق محفوظ في تحليل علاقة الأم بأبنائها وقد صاروا كبارا تتفرق بهم المصائر.. وفي مقطع من الرواية يصف محفوظ مشاعر الأم تجاه ابنها البكر “هذا أكبر الأبناء، أول من أيقظ أمومتها، الحبيب الأول. لكنه دليل ملموس على أن الأمومة قد تتأثر بأمور لا تمت للفطرة بسبب”.

وفي رواية السراب، يرتبط الابن بالأم المطلقة التي عاش في كنفها وكانت تداعبه كثيرا، وارتبط بها ارتباطا مرضيا، وظلت تطارده بعد وفاتها، فيقول على لسان البطل “كانت أمي وحياتي شيئا واحدا، وقد ختمت حياة أمي في هذه الدنيا، ولكنها لا تزال كامنة في أعماق حياتي، مستمرة باستمرارها. لا أكاد أذكر وجها من وجوه حياتي حتى يتراءى لي وجهها الجميل الحنون، فهي دائما أبدا وراء آمالي وأحلامي، وراء حبي وكراهيتي، أسعدتني فوق ما أطمع، وأشقتني فوق ما أتصور”.

ولا شك أن الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق استوحى شخصية أم بطلة من حياته، فيسرد في مقال بديع تفاصيل علاقته بوالديه، ويحكي قصة مرور العائلة بضائقة مالية وهو طفل، فتأخذه الأم سراً معها في رحلة لمحلات الصاغة، حتى تبيع مصوغات ذهبية، وتعود للبيت وتقول للأب إنها عثرت على مبلغ من المال في مظروف في بدلته القديمة لتفك ضائقة الأسرة من دون أن تجرح مشاعر الأب.

ويعلق أحمد خالد توفيق “ما زلت أذكر تلك الليلة، وأفكر في أن أمي خدعت زوجها. خدعته وباعت مصوغاتها من أجل فك ضائقة مالية يمر بها، فما كان ليسمح لها بذلك أبدًا لو عرف.. يجب أن يكون العام كله عيدًا للأب وللأم”.

أما عن الشعراء فيقول الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش :”أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي، وتكبر في الطفولة، يوما على صدر يوم، وأعشق عمري، لأني إذا مت، أخجل من دمع أمي”.

ويحكي الشاعر الراحل صلاح جاهين، في مقاله بصحيفة الأهرام، عن أمه التي كانت تحكي له القصص من الأدب الإنجليزي، وتزرع فيه النزعة الوطنية صغيرا، وتتشكل ملامح علاقته الفريدة بها من خلال مجموعة من الرسائل بخط يدها.. يقدم لها التهنئة بعيد الأم “حبيبتي ماما.. أقبلك ألف قبلة بل مليون قبلة وأدعو الله أن تكوني بصحة جيدة، كل سنة وأنت طيبة عشان عيدك”.

وهذه الرسائل لا تبتعد كثيراً عن كلمات الأغنية الشهيرة التي كتبها صلاح جاهين عن الأم:”صباح الخير يا مولاتي.. أبوس الإيد وقلبي سعيد، يا أول حب في حياتي.. يا أمي”، أو في جملته الرائعة التي تلخص كل شيء عن طيبة الأم “منساش الابتسامة.. ومش هنسى يا ماما.. الشخطة اللي تعلم.. دون نهنش للكرامة”.

وقد حملت صورة الأم في الأدب العربي مشاعر وقيماً إنسانية مضاعفة، وشكلت رمزية مفعمة بالحنين والنقاء والقداسة، كما قال الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي “الأمُ تلثم طفلها وتضمه.. حرمٌ سماويّ الجمال مُقدس”.

  وأنــا أقـــول: إنَّ في الدنيــا جَنَّـــة، مَن لم يدخلها؛ لن يدخل جنَّــة الآخِــرة .. ألاَ وهيَ “قلْـب الأم“!

 ولعلَّ هذا هو السرّ في أنه ما مِن رسالةٍ مِن رسالات السماء إلاَّ وقد أوصتْ بِطاعة الأم، وجعلتْها “الوصـــيَّة الثانيــة” بعد “وحدانيـــة الله”.