شغلت قضية الآخر أذهان المفكرين الإسلاميين في العقود الأخيرة سيما مع تمدد الفكر الغربي وسيادة مفاهيمه وقيمه ونجاحه في غزو كثير من الثقافات والمجتمعات، وفي هذا الصدد قارب المفكرون الإسلاميون قضية العلاقة مع الآخر على وجهيها، الآخر الحضاري والفكري (الغرب) والآخر الديني (الأقليات)، وفيما يلي نتطرق إلى رؤية المفكر الفلسطيني إسماعيل راجي الفاروقي (1921-1986) لقضية العلاقة مع الآخر ويحدونا لذلك كونه أحد المفكرين الإسلاميين الذين أقاموا بالخارج مدة طويلة ووقفوا على جوهر الحضارة الغربية، وكونه كان أستاذا لمادة تاريخ الأديان بجامعة تامبل.

الآخر الحضاري ومبدأ الشك

يفترض الفاروقي أن أي حضارة تتأسس على مبدأ عام رئيس فالإسلام قد نشأ وتمدد حول مذهب التوحيد، وفي المقابل تأسست الحضارة الغربية على مبدأ الشك كمذهب عام، ويقول هذا المبدأ:

لا شيء يُعرف حقيقة سوى الظواهر المادية والطبيعية، وفي العلاقات الإنسانية لا شيء يعرف حقيقة سوى الرغبة.

الظواهر الأخلاقية ليست ثابتة ولا يمكن كنهها فهي دائما مشكوك فيها لا نعرف فيها خيرا من شر.

لا يجوز للإنسان أن يدعي أن سلوكا خيرا من الآخر إلا إذا أفضى إلى إشباع الرغبات.

ويستنتج الغرب من هذه المبادئ التي يجب أن تسود العلاقات بين الأفراد هي احترام الرغبة فهي وحدها الحقيقة وما دونها ليس بحقيقة، ويعتقد أنه لا جدال في الذوق والأخلاق والسلوك الفردي والجماعي لأنها ليست بحقائق ثابتة، ولكل إنسان ما رغب دون أن يتعرض لحساب أو عتاب لكون الرغبة لا يمكن ضبطها بمبدأ أو رادع.

وقد عرف الغرب ثلاثة أنظمة فكرية كبرى قامت على مبدأ الشك وهي؛ الفوضوية التي قامت بتأثير مباشر من المسيحية، وأبت التشريع للسلوك الجماعي وتركته لقيصر كما أبت أن تشرع للسلوك الفردي لأنه ميدان الرغبة والرغبة شر.

والليبرالية التي تقوم على الشك في أن العلاقات بين الأفراد تسودها القيم والأخلاق وتعارض فكرة تأثير الإنسان في أخيه الإنسان. فالإنسان يحيا داخل رغباته، وليس مجال هناك للتدخل إلا إذا تعارضت الرغبات بين البشر، فالمبرر الوحيد إذا لإيجاد القانون والنظام هو المحافظة على سلامة الفرد وحريته في إشباع رغباته.

والشيوعية وهي أيضا تقوم على مبدأ الشك ولا يفصلها عن الليبرالية سوى أنها تؤمن برغبات الجماعة وترى ضرورة تلاشي الرغبات الفردية لصالح الرغبة العامة.

وقد أفضى مذهب الشك كما يعتقد الفاروقي إلى نتائج إيجابية وأخرى سلبية، وأما الإيجابية فهي احترام الذات الإنسانية وحمايتها من كل معتدي، وتدعيم فكرة التعاون بين الأفراد المواطنين لتحقيق الرغبات المشتركة، والتوجه نحو استغلال الطبيعة بعد أن تم إشباع الرغبات الفردية.

وأما النتائج السلبية فهي، تأليه الذات الإنسانية وجعلها وحدها الحقيقة فأصبح إشباعها هو معيار الخير والشر، وهو ما أفضى في النهاية إلى إقصاء الإنسان عن الله وتصويره على أنه إله له مشيئته التي تضاهي مشيئة الله عز وجل. وكذلك أفضى تعظيم الروابط بين الأفراد سواء أكانت روابط طبقية داخل المجتمع الواحد أو روابط قومية بين المجتمعات المختلفة إلى اعتبار مصلحة الجماعة مصلحة عليا ليس هناك ما يفوقها ومن هنا نشأت فكرة التعصب القومي ضد الأمم والأفراد الأخرى، وأخيرا فقد بالغ الغرب في إستغلال الطبيعة وتطويعها لإشباع رغباته فكان تلويث الكرة الأرضية ومواردها الطبيعية ووصل الأمر بالغرب إلى وضع علم جديد باسم (علم التوازن الطبيعي) ليساعده على استغلال الطبيعة بشكل منظم.

وعلى الرغم من ذلك لا ينكر الفاروقي أن للغرب إنجازات هائلة حققها عبر التطبيق الخاطئ للمبادئ السابقة، ومن مفاخرها: المساواة بين الأفراد، ومساءلة ذوي النفوذ، وانتقال السلطة من يد إلى يد دون عنف وإراقة دماء، وهو يذهب إلى حد الاعتراف بأن ما تحقق للغرب خلال القرون الخمسة الماضية عبر المبادئ الخاطئة لم يحققه المسلمون عبر إسلامهم، لكنه يوضح أن ذلك لا يعود إلى الإسلام في ذاته بل للنقص في إسلام المسلمين وتقصيرهم الحضاري، وبالتالي لا ينبغي أن تغرنا إنجازات الغرب لأننا نوقن أن كل ما أقيم على أصل فاسد فهو فاسد أيضا ومصيره إلى التلاشي والزوال وإن طال أجله، وهو يدعم استنتاجه بآراء كبار الفلاسفة الغربيين كتوينبي وشبنغلر وفان لفين ممن ذهبوا إلى أن الحضارة الغربية قد دخلت طور الأفول وأنها تعاني الشيخوخة، ولذلك فهو يحث المسلمين إلى طرح الفكر الغربي وعدم الانبهار به، والتوجه نحو الفكر الإسلامي وبخاصة في عصور الازدهار والاقتداء به ومحاولة التواصل معه والبناء عليه لاستئناف المسيرة الحضارية المعطلة.

الآخر الديني وموقف الإسلام منه

وعلى الجهة الأخرى من قضية الآخر الديني، قدّم الدكتور الفاروقي إسهاماً متميزاً في سبيل إيضاح موقف الإسلام من الأديان الأخرى وذلك بحكم تخصصه في فلسفة الأديان، وهو ينطلق من إقرار الإسلام بأن ظاهرة النبوة ظاهرة شاملة ومتكررة وأنها حدثت على امتداد الزمان والمكان، وأن الله سبحانه وتعالى لن يُحاسب البشر حتى يبعث فيهم نبيا. والأنبياء منهم من ورد ذكره في الكتب السماوية ومنهم مَنْ لم يرد ولكن يمكن لنا التعرف عليهم عن طريق مضمون رسالتهم؛ فجوهر دعوة الأنبياء جميعا التوجه إلى الله وحده بالعبادة، وفعل الخيرات واجتناب المنكرات. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 62].

وينظر الإسلام إلى الديانتين التوحيديتين اليهودية والمسيحية بنوع من الشعور بأواصر القربى والاشتراك في جوهر توحيدي واحد “فالإسلام لا يرى في اليهودية والمسيحية آراء أخرى لابد من التسامح إزاءها بل ديانتين قائمتين شرعا نزلتا بوحي من الله، ثم إن وضعهما المشروع هذا ليس بالاجتماعي السياسي ولا الثقافي ولا الحضاري بل هو وضع ديني. والإسلام دين فريد في هذا المجال، إذ لا توجد ديانة في العالم تجعل من الإيمان بحقيقة أديان أخرى شرطا لازما في إيمانها الخاص وشهادتها على الناس”.

ولا يعني هذا أن الإسلام يُقدّر أتباع الأديان؛ توحيدية كانت أم وضعية مسقطاً من تقديراته من هم لا يؤمنون بأي دين، فهؤلاء ينظر إليهم الإسلام باعتبارهم بشراً لهم حقوقهم الكاملة غير المنقوصة؛ بموجب أنهم يؤمنون بالدين الفطري الذي منحه الله للبشر كافة، وأنهم يمكن أن يكونوا مؤمنين بالله سبحانه وتعالى بما استودعه الله فيهم من عقل قادر على التمييز بين الهدى والضلال.

وعلى هذا فإن نظرة الإسلام إلى البشر –كما استنبطها الفاروقي- تأتي على ثلاثة مستويات منفصلة أولها الاشتراك في دين الفطرة؛ فالله تعالى قد منح البشر جميعا عند ميلادهم دينا صحيحا صادقا وفطريا لا يتبدل بمرور الأزمان. وثانيها أن البشر وعلى اختلافهم كانوا هدفا للوحي الإلهي كلُ بأسلوب يتلاءم مع تاريخه ولغته. وثالثها التماثل بين الديانات التوحيدية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام باعتبارها مُنّزلة من الله سبحانه وتعالى.

ومن الواضح أن الإسلام وقد اعترف بالديانات التوحيدية وغيرها فقد منح جميع الذميين – أتباع الديانات التوحيدية والأديان الأخرى – حقوقا وامتيازات داخل المجتمع الإسلامي؛ فللذمي الحق المطلق في أن يظل على عقيدته حتى وإن تم عرض الإسلام عليه مرات متعددة، ذلك أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كفل لنصارى نجران ولكافة الذميين هذا الحق. كما يجوز للذمي أن يحاول إقناع المسلم بعقيدته أيا كانت، انطلاقا من أن حق الإقناع متبادل، وأنه عملية ذات وجهين من المناقشة والمناقشة المضادة، ولا يمكن أن تتم إلا في وجودها وإلا أصبحت إملاءً وإكراها. ولأهل الذمة الحق في أن يلقنوا أبناءهم تعاليم دينهم، وأن يتلقى أبناءهم تعليما دينيا في المؤسسات التعليمية الرسمية، ولهم كامل الحق في التعبد وإقامة دور العبادة التي تكفل لهم ممارسة شعائر دينهم.

وعلى المجتمع الإسلامي أن يكفل لهم حق التملك، وحق العمل دونما تقيد بنوعية معينة من الوظائف حتى ذات الطبيعة الحساسة كالوظائف العسكرية، ولهم الحق كذلك في إشباع رغباتهم في السعادة والتمتع بالجمال إذ يجوز لهم معاقرة الخمر واقتناء الأعمال الفنية التي يرى الإسلام أنها غير جائزة، شريطة أن يتم ذلك في نطاق ضيق لا يتجاوز دوائرهم المغلقة خشية تهديد الشعور الأخلاقي العام.

وبالجملة فقد شغل الفاروقي ببحث قضية الآخر بشقيها الحضاري والديني، وقدم رؤية مهمة تتعلق بالقواعد والأسس التي ينبغي اعتبارها في تحديد الموقف من الآخر والعلاقة معه.