هل تساهم الفنون في تحقيق التنمية؟ وهل يمكن للابداع أن يكون تجارة رائجة، وذا مدخول اقتصادي كبير؟ وهل يمكن للفن أن يؤثر في مؤشرات الاقتصاد؟ في كتابه “الثورة الإبداعية للأمم: هل تستطيع الفنون أن تدفع التنمية للأمام (1)” يجادل “باتريك كاباندا”،  الفنان والكاتب ذو الأصول الأوغندية، والمستشار في البنك الدولي، بأن الفن والإبداع قادران على أن يؤثرا في مؤشرات التنمية ويحققا مدخولات اقتصادية، ويساهما في تحقيق فرص عمل جيدة؛ بل ويكون لهما تأثيرهما في التخفيف من التأثيرات الناجمة عن الكوارث والاحباطات.

الاقتصاد غير المُستَغل

هناك إغفال لقدرة الروح والوجدان على التأثير الاقتصادي، فمن الناحية النفسية يؤدي الاكتئاب الذي يصيب 3.8% من سكان العالم، ويكلف الاقتصاد العالمي ما يقرب من التريليون دولار سنويا، وتوقعات أن يرتفع الرقم إلى (6) تريليونات عام 2030، لذا فمداواة النفس والروح من خلال مخاطبتها بلغة الفن والإبداع أحد المداخل المهمة والفعالة في الاقتصاد، غير أن “كاباندا” لا يقف عند حد التأثير السلبي للفن والإبداع في العملية الاقتصادية، ولكن يقدم من خلال خبرته الواسعة في المشاريع الثقافية في البنك الدولي، جهدا علميا ومعرفيا للتأكيد على أن الفن والابداع قادران على المساهمة في التجارة، ويصف التنمية التي يخلقها الفن والإبداع بأنها “تنمية على نحو فريد” لأنها تعزز التقدم المصحوب بالمعنى، مما يجعلنا ننظر للتنمية من منظور إنساني بدلا من الاكتفاء بقياسها بوسائل ومؤشرات مادية، فالفن يجعل الحياة الإنسانية أكثر ثراءا وجمالا، لأنه ينصرف إلى الاهتمام بنوعية الحياة، وليس فقط بشكلها المادي.

ولكن هل يمكن ان يكون الفن والابداع سلعة قابلة للبيع والشراء، ولها سوق رائجة، وتحقق عوائد مربحة؟

في كتابه “الثورة الإبداعية للأمم” يجيب “كاباندا” بنعم. فتحقيق التكامل بين ما هو اقتصادي وبين ما هو ثقافي ممكن، فالفنون تساهم في الرفاهية الإنسانية، لكن الأهم أنها تلهمنا القدرة على الابتكار، وهو ما يثري الجانب الاقتصادي والمادي، وكما يؤكد البنك الدولي  فإن “الحفاظ على التراث الثقافي والمنتجات الثقافية، يمكن أن يساعد في خفض الفقر المدقع في البلاد النامية”، فالفن ليس نوعا من الرفاهة، ولكن قد يكون مدخلا للتنمية وتحسين حياة الناس، فباستطاعة الثقافة توليد أنشطة اقتصادية ذات عائد مادي معتبر، وتحرير الخيال الإنساني، من أسر ميكانيكية العمل، ليتجول في آفاق الابتكار والاختراع، كما أن الفن يستطيع أن يحقق إنسجام في المجتمعات متعددة الأعراق، بلغة  يفهمها الغالبية وقد يلتفون حولها، فتنخفض حدة الصراعات، وتُخلق البيئة الصالحة للتنمية.

هذه الرؤية تشجع الكثير من الدول والمجتمعات للنظر في تراثها الفني والثقافي والإبداعي بالتبجيل والاحترام ، ومحاولة توظيفه اقتصاديا، فالثقافة قد تسبق التجارة، وقد تشكل الثقافة سياجا لحماية التجارة وإزدهارها.

والنمو الاقتصادي، منذ الثورة الصناعية، يعد الابتكار والاختراع محركان لعجلة المصانع والاقتصاد، فالفن ليس وسيلة للمتعة فقط، ولكن يحرك غرائز وملكات داخل الإنسان تساهم في توسيع دائرة إداركه وفهمه، ومن ثم تلهمه إمكانات لابتكار حلول جديدة وجيدة لمشكلات مستعصية، مما يساهم في الرفاهة الإنسانية.

يصف “كاباندا” الاقتصاد الذي الناتج عن الأنشطة الثقافية بأنه كان “اقتصادا غير مرئيا” لفترة طويلة، ومن ثم لم يُستَغل، وتشير الاحصاءات أن التجارة في القطاع الإبداعي، تنمو بشكل مضطرد، ففي عام 2002 بلغت 267 مليار دولار، أما في العام 2008 فبلغت 592 مليار دولار، وهي تزيد بمعدل 5%، لكن الدول المتقدمة احتلت ما يقرب من 82% من هذا الرقم في صادراتها الخاصة بالخدمات الإبداعية.

وفي تقديرات بريطانية فإن كل جنيه إسترليني يُدفع أجرا في مجال الثقافة والفنون يُنتج 2.1 جنيها إضافيا في الاقتصاد العام من خلال جذب الزوار، وخلق الوظائف، وتطوير المهارات، فالتزاوج بين التكنولوجيا والفن والإبداع أفضل طريق لخلق شيء ذي قيمة، وخلق أرباح غير متوقعة، وضرب “كاباندا” بمساهمة “حقوق الملكية الفكرية”  فقد أدت إلى زيادة في الاقتصاد الأمريكية بنسبة 3%، وهي تقدر بـ (400) مليار دولار، لكن “كاباندا” يؤكد أن الدول النامية تستطيع أن تلج إلى هذه السوق، وأن يكون لها نصيب كبير في الاقتصاد الإبداعي creative economy ، وكما يقول الرئيس السابق للهند “أبو بكر عبد الكلام” “عندما يكون التعلم هادفًا، يزدهر الإبداع، وعندما يزدهر الإبداع، ينبثق التفكير، وعندما ينبثق التفكير، تُضاء المعرفة بالكامل، وعندما تضاء المعرفة، يزدهر الاقتصاد.

بين “ناشفيل” و”نوليوود”

يعطي “كاباندا” أمثلة كثير على إمكانات الفن والإبداع الاقتصادية، ومن أشهرها، حالة “ناشفيل” Nashville،وهي مدينة بولاية “تنيسي” الأمريكية، وترتكز حياتها الاقتصادية على الموسيقى، فهناك ارتباط بين الموسيقى وبين سكان المدينة وأنشطتها الاقتصادية، منذ نشأتها في أواخر القرن الثامن عشر، حيث نزل السكان الأوائل ومعهم الكمان والرقص الصاخب، لتنمو الموسيقى في المدينة منذ ذلك التاريخ حيث يوجد بها أكثر من (130) مكانا يقدم الموسيقى، لذا أصبحت “ناشفيل”مركزا دوليا للموسيقى، لكن يوجد نوع من التكامل المادي الذي وفر للمدينة أن تكون الموسيقى أحد أحد أنشطتها الاقتصادية، فتتوافر الاستديوهات،وشركات التوزيع، وجمعيات المؤلفين الموسقيين ومؤلفي الأغاني في أماكن متقاربة، وهو ما يعني أن البنية الاقتصاية للمدينة نسجت خيوطا من التكامل مع الجوانب الفنية لتنتج هذا التميز، وهو ما ساهم في خلق فرص للتوظيف، حيث توفر صناعة الموسيقى أكثر من (65) ألف وظيفة تقدم أجورا سنوية تقدر بـ(3.2) مليار دولار، وتسهم صناعة الموسيقى بحوالي (5.5)  من أصل (9.7) مليار دجولار هو الناتج الكلي للمدينة، كذلك فهناك الجانب التعليمي حيث توجد كليات ومدارس مهنية يتخصص بعضها في الموسيقى، وهو ما صنع لها هوية ثقافية موسيقية، كان لها مردود اقتصادي كبير، وهو يجعلنا نصف اقتصاد “ناشفيل” بأنه اقتصاد قائم على الإبداع.

أما صناعة السينما في “نوليوود” في نيجيريا، والتي تعد ثاني أكبر منتج للسينما في العالم حسب “اليونسكو”، وتسبق “هوليوود” نفسها، حيث تنتج “نوليوود”  أكثر من (2500) فيلم سنويا، وتساهم بثلاثة مليارات دولار في الناتج القومي النيجيري، حيث استطاع صناع السينما في “نوليوود” أن ينطلقوا بميزانيات صغيرة لانتاج أفلام مميزة، وتتراوح ميزانية كثير من الأفلام ما بين 30:15 ألف دولار، وبعضها يصل إلى 70 ألف دولار، وتشير احصاءات أنها ثاني أكبر قطاع يستوعب العمالة في نيجيريا بعد الزراعة، رغم أنها صناعة حديثة النشأة بدأت في العام 2002، ولكنها وظفت إمكاناتها المحدودة بطريقة مبتكرة للانتشار، وتحقيق مدخول اقتصادي كبير ومتصاعد؛ بل أصبحت نموذجا لصناعة السينما في أفريقيا.

يخلص الكتاب أن الرياضيات والعلوم ليست الوسائل الوحيدة لتحقيق الثروة والتنمية، ولكن هناك الفن والإبداع فـ”البشر هم الهدف الذي يجب أن يكون الاقتصاد في خدمته” وهو ما يغذي مفهوم “رأس المال الإنساني”، فالفوز ليس معناه دائما الكسب، ولكن قد يكون التعامل بكفاءة مع الغموض، أي الولوج إلى ماوراء المادة، وما وراء الشعور، وتحفيز الخيال، وحب الاستطلاع، والتفكير الابتكاري، والتعاطف، وعمق الملاحظة، فاستبعاد الفنون-كما تشير دراسات نفسية- يؤدي إلى عدم تنشيط لجانبي المخ الأيمن والأيسر، مما يعني أن المخ لن يعمل بكفاءة، وكذلك الاقتصاد.


1- كتاب “الثورة الإبداعية للأمم: هل تستطيع الفنون أن تدفع التنمية للأمام” تأليف “باتريك كاباندا”Patrick Kabanda  والصادر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت، يوليو 2022 في حوالي 420 صفحة