قبل التطرق للتعريف بـ كتاب ” جوهر الغرب ” ، فقد عرفت تجربة النهضة والتنوير الغربي [1] انتقالا لشعوب متقاربة ثقافيا من التدين العام الذي يصبغ الحياة، إلى التخلي عن الإيمان بشكل جماعي، كذلك لم يعد العلم يتأسس على رؤية دينية، ولكن ارتكز على الشك واعتمد التجريب، ولم يرض بغير الحواس سبيلا، ونتج عن ذلك تمزقات وأزمات نفسية داخل المجتمعات، وهذا ما كشفه كتاب “الانتحار” للفيلسوف الفرنسي”إميل دوركايم”، المنشور عام 1897 والذي يعد أول دراسة عن الظاهرة، والتي كشفت عن أزمة غياب المعنى في المجتمع مع إقصاء الدين ، لذا أصر “دور كايم” على تقديم تفسيرا سوسيولوجيا للظاهرة ، وليس تفسير نفسيا، فرأى أن الانتحار حقيقة اجتماعية لا يمكن تفسيرها إلا بحقائق اجتماعية أخرى.

وأمام حالة التمزق التي عاشها الغرب، والتي صاحبت الانتقال، بعد عملية هدم عنيفة، من نظام معرفي وسلوكي يرتكز على الدين إلى نظام آخر، ولدت الحداثة مفتقرة إلى الإيمان واليقين، ومُخاصمة لكل مقدس إلا عقلها وذاتها، ومُبشرة بإنسان جديدة لا ينظر إلى السماء ولا يهتدي بأنوارها، وغايته أن يُخضع كل شيء لسيطرته وسطوته.

وفي مسعى لفهم الأعمدة التأسيسية التي ترتكز عليها الحداثة الغربية وحضارتها، جاء صدور كتاب “جوهر الغرب: دراسات نقدية في المباني التأسيسية لحضارة الحداثة” تحرير الدكتور “محمود حيدر”، والذي شارك فيه مجموعة من المختصين في الفسلفة و الفكر الغربي، والصادر عام 2022، في 574 صفحة، مستعرضا عددا من تلك الأسس، ومنها: النسبية، والإنسانوية، والوضعية، والعلموية، والديمقراطية، والتقنية، و العقلانية، والليبرالية، والمواطنة، والشكوكية، والفردانية.

العودة الإغريقية اليونانية

مع عصر التنوير، أخذ الكثير من الفلاسفة والمفكرين الغربيين يُعيدون اكتشاف هويتهم من خلال الرجوع إلى التراث الإغريقي واليوناني، بما فيه من وثنية، وتعدد آله، ويشير الكتاب أن ” جلَّ فلاسفة ومفكِّري الحداثة استلهموا كلياتهم المفاهيمية مما أسَّسه الأسلاف في علم الوجود، وهو التأسيس الذي قام في الأصل على مبدأ الفصل التام بين الموجودات وأصل صدورها”، لكن العودة للوثنية اتخذت أشكالا جديدة، فكانت “الذات الإنسانية محل التقديس الجديد” ، والذي صاغه الفيلسوف “ديكارت” في “الكوجيتو” (Le Cogito ) أو الذات المفكرة، أو حسب العبارة الشهير :”أنا أفكر.. إذن أنا موجود”، فاكتفت الذات بنفسها لفهم الوجود، وصياغة فلسفته وأخلاقه، فظهرت وثنية “الأنا” المفكرة، التي شيد عليها العقل الحداثي مرتكزاته، وأبرزها “الفردانية” التي تعني الإنكار لأيّ مبدأ أعلى منها، فكانت إحدى أبرز الأسس والمرتكزات التي أحكمت قبضتها الصلبة على حضارة الغرب الحديث، وكانت أحد الأسباب الحاسمة في تنامي المادية للحياة الإنسانيّة المعاصرة.

جاءت العقلانية رافعة شعار “إزالة السحر عن العالم” وكان هذا أحد التأسيسات المهمة للمادية، فأصبح المعقول هو الطبيعي، فلا وجود  للغيبيات أو ما وراء الطبيعة أو الميتافيزيقيا، فرُفض الغيب بكل طاقته وقوته، ووضع الغيب ضد العقل، ونمت على هذه الأرضية الكثير من المناهج والمعارف العلمية التي لا تعترف إلا بالحواس والتجريب كأساس للعلمية والعقلانية، وحسب الكتاب “اعتُبرت النزعة العقلانية بالصورة التي نمت بها خلال الـقـرنـين الـسـادس عـشـر والـسـابـع عشر في الغرب نسقاً ميتافيزيقياً كاملاً، وبديلا للدين في بعض الأحيان.

وظهر الاستعلاء الحضاري مع ظهور الذهنية الإقصائية، والذي يستمد روافده من التنظير الفلسفي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والذي لا يرى حضارة إلا الغربية، وهي رؤية سعى لترسيخها فلاسفة غربيون، استنادا إلى “نظريات” متعددة، منها التفسير العنصري، في “عبء الرجل الأبيض”، والإدعاء بأن هناك تراتبية بين الجنس البشري، أشبه بالتراتبية بين الكائنات، وهو ما ذهب إليه “إيمانويل كانط” عندما وضع الجنس الأبيض في المرتبة الأولى لاستجماعه المواهب والقدرات، ليأتي الزنوج والهنود في ذيل البشرية مُدعيا عجزهم عن التعلم والتحضر، كانت تلك الذهنية وراء الجحيم الذي أصاب الشعوب التي تعرضت للهجمة الاستعمارية الغربية في تلك الفترة، إذ بررت الظاهرة الاستعمارية، والممارسات الوحشية التي ارتكبها الغرب في المستعمرات.

تجليات النسبية

جاءت النسبية، كمفهوم حاكم للبنية العامة للفكر الغربي،  وكانت سببا فيما يعانيه المجتمع الغربي من أزمات حول غياب المعنى وتراجع القيم، فشيوع النسبية يقوض إطلاقية القيم ويغيب معيار الخير والشر، والصواب والخطأ، ويعدد الآراء بعدد البشر ، فينعدم اليقين، فكانت “نسبية المعرفة” التي تقر بتغير المعرفة الإنسانية، و”نسبية الأخلاق” وتعني أن فكرة الخير والشر تتغير حسب المكان والزمان.

والواقع أن هذه النسبية تمتد بجذورها إلى السوفسطائيين، ونجدها في كتاب لـلفيسسلوف السوسفطائي “بروتاجوراس”، إذ تقول: ” الإنسان مقياس كلّ شيء، فهو مقياس أنَّ الأشياء الموجودة موجودة، وأنّ الأشياء غير الموجودة غير موجودة”، وعلى نسبية المعرفة وذاتيها قامت وتأسست نسبية الأخلاق، ليؤكدها “ميكيافيللي” في شعار “الغاية تبرر الوسيلة”، فعاد بالأخلاق إلى النزعة النسبية.

والمعروف أن “توماس هوبز”، أهم الفلاسفة التجريبيين الإنجليز، قامت نظريته على النزعة المادية، ففسر العالم وأحداثه من خلال المادة، مستبعدا الروح، ومنكرا استقلال النفس، ففسر شهوات الإنسان برغبته في حفظ الحياة، ورأى أن المعرفة نسبية ما دامت تعتمد على الحواس، فقرن الخير باللذة، والشر بالألم، ورأى أن الخير والشر لا يكتسبان حقيقتهما من قيم إطلاقية، ولكن  يكتسبانها من الشخص الذي يتوقف عليه كل شيء.

وقد سرت تلك النزعة النسبية المعرفية والأخلاقية بين فلاسفة عصر النهضة مثل “جون لوك” الذي أكد على غياب القوانين الأخلاقية، رافضا “الفطرة“، وقال: ” العقل مجرّد صفحة بيضاء تمامًا والتجربة هي التي تخطّ عليه سطورها  “، وعبر الفيلسوف الألماني “نيتشه” عن تلك النسبية بشكل فج في المعرفة والأخلاق، فدعا إلى التحلل من كل الفضائل والأخلاق إلا القوة.

ونتج عن تلك النسبية المتطرفة ظهور الفلسفات الذاتية والعدمية في فكر ما بعد الحداثة، والذاتية تعني أولوية الذات، فالإنسان هو الذي يضع المقاييس، أما العدمية، فتعني غياب القيمة أو الجدوى منها، لذا ظهر التشكيك والتشتيت والتفكك والانفلات من الإيمان بالغيب والتمركز حول الذات، وانهيار اليقينييات والضياع الأخلاقي، وتسببت النسبية في مجال المعرفة والأخلاق، في ثلاث كوارث، هي:

الادعاء بموت الإله: وهو معنى لخصه “نيتشه في عبارته الصادمة: “لقد مات الإله، ونحن قتلناه”، ثم جاء “فويرباخ” الذي أمات الإله لصالح الإنسان، وبالتالي أصبح الإنسان هو الذي يحدد كل شيء، وظهرت فكرة الإنسان “السوبر مان” الذي لا شيء يفوقه قوة، كان موت الإله يعني القضاء على كل إطلاقية للقيم، وينفي كل معيار عام وشامل للأخلاق.

موت الإنسان: وتجلت الفكرة عند فلاسفة غربيين، بأشكال ومقولات متعددة لكنها تجمع على عبثية الحياة وغياب معناها وانتفاء غايتها وسخفها، فالفلسفة الماركسية رأت أن العامل الاقتصادي هو الموجه والـمحدد الوحيد للسلوك الإنساني، وبالتالي جعلت سلوك الإنسان خاضعاً لشروط خارجة عنه، فيقول المفكر الماركسي” لويس ألتوسير”: “التاريخ عملية دون ذات ” أي  أن التاريخ عملية تتحرك دون ذات فاعلة ومؤثرة ، أما مدرسة التحليل النفسي، فأرجعت سلوك الإنسان لرغبات جنسية مكبوتة، وظهرت “البنيوية”، التي رآها البعض فلسفة تعبر عن موت الإنسان ” بعدما ألغت الكائن الإنساني وجعلته خاضعاً لمنظومة لغوية أو أسطورية.

موت المعنى المُطلق: فموت الإله وموت الإنسان يعني موت المعنى وانهيار كل شيء في الوجود، بعدما أصبح كل معيار يُفهم بأكثر من وجه.

ومع هذا يظل فهم الغرب فلسفة وتاريخا مسألة مهمة لفهم التغيرات التي يتعرض لها الإنسان المعاصر والبشرية، بعدما بات النمط الغربي في التفكير والفلسفة أسلوب الحياة في العالم، ففهم أزمة الغرب فلسفة ومجتمعا هي مدخل لفهم أزمة الإنسان.


[1]  يحدد المؤرخون الفرنسيون بداية عصر التنوير بالفترة ما بين وفاة لويس الرابع عشر في فرنسا في عام 1715 واندلاع الثورة الفرنسية، في عام 1789، ويحددون نهاية هذا العصر مع بداية القرن التاسع عشر، وقوّضت أفكار عصر التنوير السلطة الملكية وسلطة الكنيسة، ومهدت الطريق أمام الثورات السياسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اشتمل التنوير على مجموعة من الأفكار التي تركز على سيادة العقل والأدلة على الحواس بوصفها مصدرًا أساسيًا للمعرفة، على المنهج العلمي وعلى الاختزالية فضلًا عن التشكيك المتزايد بالعقائد الدينية.