قبل تناول التعريف بكتاب ( كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ) اهتم المسلون في مرحلة مبكرة من تاريخهم بوضع المؤلفات التي تتناول العلوم السائدة في كل عصر وترصد تطورها، وقد اتخذ هذا التأليف مظهرين:

الأول: الكتب التي تتناول العلوم بصورة إجمالية، فتقدم تعريفا بكل علم وطبيعته وحدوده وفروعه، وأول من ألف فيه محمد بن طرخان الفارابي الفيلسوف المعروف وله في ذلك كتاب (إحصاء العلوم)، وتبعه آخرون منهم جمال الدين القزويني (مفيد العلوم) ثم ابن خير البلوى (أنموذج العلوم)، والبيضاوي (موضوعات العلوم وتعاريفها) والجرجاني (تقسيم العلوم).

والثاني: الكتب التي تتناول العلوم ثم تردف بذكر المصنفات التي ألفت حول هذه العلوم تبعا للترتيب الزمني، ولعل أول من صنف فيه ابن النديم في كتابه الشهير (الفهرست) ثم تبعه آخرون منهم طاش كبري زادة (مفتاح السعادة ومفتاح السيادة) وساجقلي زادة (ترتيب العلوم) وحاجي خليفة في كتابه ذائع الصيت (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون)[1]. والذي سنبسط فيه القول هاهنا لاعتبارين:

الأول أنه وضع في القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي أي في تلك العصور التي تنعت أنها عصور تخلف ورجعية، وموضوع هذا المؤلف الضخم ومنهجه ودقته العلمية يجعلنا نتشكك في ذلك.

والثاني أن مؤلفه ولد ونشأ وأقام في مدينة اسطنبول، والكتاب ومؤلفه يعبران بشكل أو بآخر عن الحالة العلمية في الدولة العثمانية.

حاجي خليفة

هو مصطفى بن عبد الله الاستانبولي المولد والمنشأ، الحنفي المذهب، الملقب بحاجي خليفة، كانت ولادته في عام 1017ه، وكان والده موظفا عثمانيا شغل عدة وظائف حربية وكتابية، وقد ذكر حاجي خليفة طرفا من طفولته في كتابه (سلم الوصول) فيقول: وكان أبي رجلا صالحا ملازما لمجالس العلماء والمشايخ مصليا عابدا، ولما بلغت سني إلى خمس أو ست عين لي معلما لتعليمي القرآن والتجويد، وهو الإمام عيسى خليفة القريمي… ثم أسمعت ما قرأته منه حفظا لمسيح باشا وللمولى زكريا علي إبراهيم أفندي ونفس زادة، واكتفيت بعرض النصف الأول، ثم ابتدأت قراءة التصريف والعوامل على الإمام إلياس خوجه، وتعلمت الخط من ببوكري أحمد جلبي…. ولما بلغت سني إلى أربعة عشر عاما أعطاني أبي من وظيفته كل يوم عشرة دراهم وألحقني بزمرته وجعلني تلميذًا في القلم المعروف بمحاسبة أناضول من أقلام الديوان”.

ومن هذا نعرف أن حاجي خليفة التحق بخدمة الدولة العثمانية في وظيفة كتابة لكنه ما لبت أن انخرط في شبابه ببعض الحملات العسكرية للجيش العثماني في أرمينية وحلب وغيرهما، ورغم ذلك لم يتوان عن طلب العلم في الفترات التي كان يعود فيها إلى الأستانة حيث اتصل بقاضي زادة وقرأ عليه تفسير البيضاوي وإحياء علوم الدين والدرر لملا خسرو، ولكنه لما شعر أن الخروج المتكرر مع الجيش يعيقه عن التحصيل قرر الاستقالة تفرغا للعلم، ومكث عشر سنوات يدرس العلوم الدينية على مشاهير العلماء وأضاف إليها الحساب والهندسة والجغرافيا والتاريخ، حتى صار أحد الأساتذة المعدودين في عصره[2].

خلف حاجي خليفة جملة مؤلفات قيمة منها (تقويم التواريخ) ألفه في شهرين سنة 1053 كما ذكر في كشف الظنون، ومنها (تحفة الكبار في أسفار البحار) وهو عن الأسطول التركي، (جهات نما) وهو في الجغرافية ووضعه على قسمين الأول في البحار وصورها وجزائرها، والثاني في البر وبلاده وأنهاره ومسالكه وممالكه وترجم إلى اللاتينية، ومنها (سلم الوصول إلى طبقات الفحول) وهو في مجلد ضخم وجاء في ثلاثة أقسام: التراجم، الكنى والأنساب، وفوائد تاريخية، منها (دستور العمل لإصلاح الخلل) وهو في كيفية تنظيم أمور الدولة، أما أهم مؤلفاته وأكثرها ذيوعا فهو (كشف الظنون) الذي صدر في مجلدين ضخام[3].

ببليوغرافيا المعرفة الإسلامية

يعتبر كتاب كشف الظنون واحدا من أهم الموسوعات المعرفية في تاريخ الإسلام، فقد أحصى فيه مؤلفه 14501 كتابا بالعربية والتركية والفارسية، و 9512 من أسماء المؤلفين ونحو 300 علم بعضها ديني وبعضها دنيوي، وهو بهذا المعنى سجل تاريخي للعلوم والمعارف منذ ظهور الإسلام حتى القرن الحادي عشر.

وعلى الرغم من أن حاجي خليفة وضع الكتاب خلال عامي 1061-1062ه إلا أنه ليس وليد عامين بل كان ابن أعوام كثيرة سبقته، فقد شرع خليفة في تدوين أسماء ما يقع بين يديه من أسماء الكتب منذ إقامته بحلب عام 1043  وما قيده منها ظل محتفظا به وكلما وجد شيئا ألحقه به، حيث استغرقت عملية الجمع قرابة عشرين عاما.

وأما عن منهجيته في التصنيف فأوضح معالمها في مقدمته قائلا “ورتبته على الحروف المعجمية حذرا من التكرار، وراعيت في حروف الأسماء إلى الثالث والرابع ترتيبا، فكل ما له اسم ذكرته في محله مع مصنفه وتاريخه ومتعلقاته ووصفه تفصيلا وتبويبا، وربما أشرت إلى ما يروى عن الفحول من الرد والقبول، وأوردت أيضا أسماء الشروح والحواشي لدفع الشبهة ورفع الغواشي، مع التصريح أنه شرح فلان وأنه سبق أو سيأتي بيانه”، وما قام به خليفة يتجاوز العمل الببليوغرافي التقليدي فقد أحصى العلوم جميعا وعرفها وأوضح حدود كل علم وفروعه ومؤلفاته، وذكر آراء العلماء فيها وهو ما يجعله سجلا معرفيا شاملا لا غنى عنه للدارسين في تاريخ المعرفة الإسلامية.

وقد تفرد كشف الظنون بعدة خصائص لا نجد لها أثرا في المؤلفات المعاصرة له، ومن بينها

– دقة الإحالة، أي وضع الكتاب في موضعه الصحيح بحسب الترتيب الهجائي، فإذا ما اشتهر كتاب باسم آخر فإنه يحيل إلى الموضع الذي ترد فيه تفصيلات عنه.

– ذكر مقدمات الكتب وخاتمتها، وهو ما طبقه في غالب الأحيان، وقد يسر بذلك سبل القائمين على تحقيق المخطوطات.

– الأمانة العلمية، وهي تتبدى في إشارته إلى أنه اطلع على مؤلفات من سبقوه إلى هذا المجال وأفاد منهم، وحرصه على عزو المعلومات إلى مصادرها الأصلية.

الاطلاع المباشر على الكتب قبيل نسبتها إلى أصحابها، وهو ما يعرف باسم “التشخيص” فيقول في مقدمته ” وقد ألهمني الله جمع أشتاتها (الكتب) وفتح علي أبواب أسبابها فكتبت جميع ما رأيته من خلال تتبع المؤلفات وتصفح كتب التاريخ والطبقات”[4]، ويفهم من ذلك أنه لم يكن يدون الكتب بمجرد السماع وإنما كان حريصا على الاطلاع بنفسه على نسخ منها.

المستشرقون وكتاب كشف الظنون

لاقى الكتاب اعتناء كبيرا من جانب المستشرقين، وسرعان ما أصبح أهم مصدر ببليوغرافي لمعظم الأعمال الاستشراقية المتعلقة بالتراث الإسلامي ويمكن الإشارة هنا إلى تأثيره في أهم عمل ببليوغرافي استشراقي في القرن السابع عشر ويتعلق بكتاب المكتبة الشرقية، للمستشرق الفرنسي بارتملي هربلو الذي استند إليه في معظم تراجمه وكتبه، كما كان له أثره على حركة الاستشراق فقد كان مصدرا رئيسا للمستشرق الألماني ريسكه في كتابه (مدخل عام إلى تاريخ الإسلام) في القرن الثامن عشر، وقد تنبه المستشرق الألماني فلوجل لأهميته وعكف على تحقيقه ونشره في سبع مجلدات توالت في الصدور ثلاثينات القرن التاسع عشر، وهو ما يؤكد المكانة العلمية للكتاب والمنزلة التي يحتلها بوصفه سجلا شاملا للمعرفة الإسلامية.


[1] إبراهيم الإبياري، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون تأليف حاجي خليفة، القاهرة: مجلة تراث الإنسانية، 1965، مج3، ع5، ص 395-397.

[2] نفس المرجع السابق، ص 401-402.

[3] محمد زاهد الكوثري،  ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻛﺎﺗﺐ ﺟﻠﺒﻲ مؤلف كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، https://vb.tafsir.net/tafsir35925/#.W6qYPvZoTIU

[4] أحمد شوقي بنبين، التأليف الببليوغرافي في التراث العربي، مراكش: مجلة حوليات اللغة العربية بمراكش، 1991، مج1،ع 1، ص34-35.