يتطلب الدفاع عن الأفكار: آداب ومنهجيات، ودراسة وتدريب، وعلوم ومعارف متنوعة، وموهبة وطلاقة لسان، وحضور للعقل، وقدرة على بناء الحجج، وفهم لعلوم النفس والاتصال.

وقد أولت الخبرة الحضارية الإسلامية اهتماما كبيرا بالمضمون الصحيح للفكرة والحُجة، فقد كان الشرع يراقب النية والقصد من وراء الجدال والمناظرة، ويسعى أن يكون الجدال رغبة في الانتصار للحق والخير ومواجهة الباطل والظلم، ووردت  كلمة “جدل” في القرآن الكريم في (29) موضعا بصيغها المختلفة، وكانت الرؤية القرآنية تؤكد ” وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا”[1]، وهذه الطبيعة الإنسانية تفرض أن يكون الدعاة على معرفة عميقة بالجدل وأصوله، أما الخبرة الغربية فصرفت جزءا واسعا من الاهتمام إلى منح الشخص القدرة على الاقناع بأفكاره، والانتصار لها، وتسويقها، بغض النظر عن صوابية المضمون، ومكامن الخير أو الشر فيه.

والجدل في الخبرة الحضارية الإسلامية علم قديم له قواعده ومنهجياته، حتى تكون أفكار الإسلام وتعاليمه دائرة في إطار المنطق والفكر الصحيح، لذا ظهر الجدل في أماكن الاحتكاك الثقافي والحضاري والديني، خاصة في العراق والأندلس، ويذهب البعض أبو بكر القفال الشاشي المعروف بـ”القفال الكبير” (المتوفى 365هـ) يعد أول من صنف في الجدل، ثم كانت الطفرة مع كتاب “المنهاج في ترتيب الحجاج” لأبي الوليد الباجي  (المتوفى 474هـ)، ويلاحظ  إصرار “الباجي” على التأكيد أن ما جاء به مأخوذ من القرآن الكريم والسنة النبوية[2].

“المنهاج في ترتيب الحجاج” لأبي الوليد الباجي

قواعد في كيفية الجدل

تحرير المصطلح: فقد أكد الفيلسوف “فولتير” على هذا المعنى بقوله:” إذا كنت ترغب في التحدث معي عرّف ما تقول وحدد قولك، كم من نقاش قد ينكمش ويتحول إلى مقطع لو تجرأ المتناقشون على تحديد عباراتهم وجملهم”، فيجب أن تخضع كل مصطلح أو فكرة للتحديد والتعريف.

التجديد في الأدوات والأفكاروالاستراتيجيات: فالناس تعتاد على أساليب الجدال وبناء الحجج، وهو ما يفرض الحاجة إلى التجديد المستمر، سواء في اللغة أو الأفكار أو استراتيجيات النقاش، يقول المفكر “علي الوردي”: “الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام، والذي يبقى على آرائه العتيقة، هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شداد”.

التمسك بالعاطفة: العاطفة ذات أهمية في الجدال، خاصة إذا كان الجدال وسط الجماهير، فما يؤثر في الجماهير هو العاطفة، والقدرة على الإمساك بمشاعرها، يقول الدكتور “علي مصطفى مشرفة” في كتابه ” العلم والحياة”: “أما العامة من الناس فلا يقنعهم المنطق، ولا يخضعون لسلطان العقل”، فالعاطفة حاضرة بقوة في الجدال، وتتطلب أن يمسك الشخص  بعواطفه فلا يسمح لآخر بأن يسيطر عليه من خلالها .

وفي كتاب “كيف تجادل وتربح كل مرة” How to Argue & Win Every Time، لـ” جيري سبينس” Gerry Spence، ينصح قائلا:” ” دع العواطف تظهر، ولا تثبط العاطفة “، ويؤكد كتاب ” العوامل السبعة لنعم ” The 7 Triggers to Yes، لـ” راسل جرانجر” Russell Granger، أن أحدث الأبحاث في علم الأعصاب أكدت أن معظم الناس يستجيب للإشارات العاطفية أكثر من الإشارات العقلانية.

كتاب “كيف تجادل وتربح كل مرة” لـ” جيري سبينس”

الأخلاق: عندما يفقد الشخص أعصابه، فإنه يعادي خصمه، فيزداد الغضب،، لذلك كانت النصيحة:”لا تقلق من أن تبدو ضعيفًا من خلال الهدوء في خضم الجدل، لأنك ستكسب نقاطًا من خلال إظهار أنك يمكنك ممارسة ضبط النفس” فالأخلاق الجيدة في الجدال تخمد نيران النفوس، خاصة إذا أدرك الشخص أن العديد من الحجج ليس لها منتصر واضح، فقد يحصل المرء على ما يريد أثناء الجدال، لكن تكون النتائج هي الأسوأ في علاقاته الإنسانية، لذا يؤكد العلامة “ابن حبنكة الميداني” في كتابه “أصول الاستدلال والمناظرة” على ضرورة التزام المسلم في مناظرته بأخلاق الإسلام ظاهرا وباطنا، وألا يلجأ إلى السب والشتم والهمز واللمز والسخرية والفحش والبذاءة.

والحقيقة أن الصراخ أو الشتم ليسا وسيلة مثلى للجدال، فلابد أن يملك الإنسان انفعالاته، فالغضب يعصف بالعقل، والأخلاق العالية والسلوك الطيب قد يجعل الخصم يحول موقعه ليقف بجوارك، لذا يقول تعالى  “وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”[3]، يقول “الشافعي”:” ما ناظرت أحدا إلا ولم أبال أبين الله الحق على لسانه أو لساني”، لذا كانت نصيحة “جلال الدين الرومي” : “ارفعوا كلماتكم لا صوتكم، إن المطر هو الذي ينبت الأزهار وليس الرعد “، فخفض الصوت يساعد على كسب الجدال، فالغضب يجعل الإنسان أقل جاذبية، وكما تقول الحكمة الانجليزية “الكياسة لا تكلف شيئًا وتشتري كل شيء”[4].

وفي كتاب “لماذا يقوم الاذكياء بأشياء غبية”[5] لـ “ديفيد روبسون”، تاكيد أن الذكاء في بعض الأحيان قد يكون فخا أثناء النقاش، فيقع الشخص في أخطاء جسيمة، ومن نصائحه المهمة التواضع أثناء النقاش والاستعداد لفهم حجج الآخرين وأفكارهم، وكما تقول الحكمة “أنا حكيم لأنني أعرف أنني لا أعرف شيئًا ”، فهذه الحكمة تكسر الغرور الفكري، فالذكاء لا يقتصر فقط على الفوز بالنتائج في النقاش، ولكنه حالة شاملة، فربما تكسب نقاشا وتخسر شخصا.

كتاب فخ الذكاء – ديفيد روبسون

-لا تكن أول من يبدأ الجدال:  فلابد أن تجعل الخصم هو من يبدأ بشرح أفكاره، ثم تأتي لتناقشها وتفندها وتعقب عليها، وتطرح أفكارك بعد الانتهاء من تلك المهمة، وربما أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قصة موسى عليه السلام مع السحرة، فقد جعلهم هم من يبدأون بإلقاء الحبال والعصي، قال تعالى: ” قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا “[6]، إذ لا يمكن مناقشة شخص ما بدقة دون فهم أفكاره، وماهية حججه،  كما أن ما يتبقى في ذهن الناس هو الكلام الأخير وليس من يبدأ الحديث.

-الاعتماد على لغة الجسد: المفتاح في هذه النصيحة أن تبدو طبيعيًا، وألا تفعل أشياء يبدو منها أنك تسخر من خصمك، وأن تحقق اتصالا من خلال العين مع خصمك في النقاش، وتشير دراسات علم النفس أن الحرص على التواصل البصري “يجعل الخصم أقل إقناعًا”، وأحيانا تكون لغة الجسد أقوى من الكلمات.

-استراتيجية المسافة النفسية: يتحدث علماء الأعصاب عن إستراتيجية فصل القضية المطروحة عن معتقدات الشخص، مع السعي لاقناعه باستيعاب حقائق وأفكار أخرى بجانب رؤيته التي يؤمن بها، وتلك الاستراتيجية تضعف اقتناع الشخص بما يؤمن به ويدافع عنه، ويشير عالم الأعصاب البروفيسور “جاي فان بافيل” Prof Jay Van Bavel أن “كل الناس لديهم هويات متعددة، ويمكن أن تصبح هذه الهويات نشطة في أي وقت، حسب الظروف”، فاستدعاء إحدى الهويات المتعددة قد يضعف قناعات الشخص، وربما يجعله يرى الأشياء بغير أيديولوجيته، وتلك الاستراتيجية تزيد “المسافة النفسية” بين الشخص وأفكاره، لذا تكرر في القرآن النداء “قل تعالوا”.

كتاب ” العوامل السبعة لنعم ” لـ” راسل جرانجر”

يقول مالك بن نبي: ” ليس يكفي أبداً أن ننتج الأفكار لابد من توجيهها لدورها الاجتماعي”، فكسب الحجة والنقاش ليس هو الغاية ولكن الانتصار للفكرة الصحيحة والمفيدة هو المقصود.


[1] سورة الكهف: الآية: 54

[2] يقول “الباجي” في مقدمة كتابه: “ولو تأملت ما في كتابنا هذا من هذه الطريقة؛ لرأيته كله مأخوذا من الكتاب والسنة ومناظرة الصحابة، وإنما للمتأخر في ذلك تحرير الكلام وتقريبه من الأفهام”

[3] سورة النحل: الآية: 125..وجاء في تفسير “في ظلال القرآن” حول هذه الآية” النفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة. وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلا عن هيبتها واحترامها وكيانها. والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة. ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها”

[4] Civility costs nothing and buys everything.

[5] عنوان الكتاب بالانجليزية The Intelligence Trap: Why Smart People Do Stupid Things

[6] سورة طه: الآية :65:66