إذا كان يوم الجمعة يفضل على غيره من أيام السنة بفضائل كثيرة، وخصائص كبيرة ورد في تحديدها نصوص الحديث الشريف، فإنه يحسن بنا أن نتعرف على هدي النبي في هذا اليوم الفضيل، وكيف كان ينتهز هذه الفضائل ويعمر يومه بأنواع الطاعات والقربات، وكيف كان يقضي الرسول يوم الجمعة خلال ما قرأناه من سيرته العطرة، وقد كان هدي النبي في ذلك خير الهدي وأحسنه وأكمله، بل جاء الأمر بطلب هذا الهدي وتحريه واتباعه، يقول الله تعالى ﴿وَاتَّبِعُوهُ ‌لَعَلَّكُمْ ‌تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]، ويقول: ﴿‌وَإِنَّكَ ‌لَتَهْدِي ‌إِلَى ‌صِرَاطٍ ‌مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]  وقال عليه الصلاة والسلام: (وخير الهدي هدي النبي) [رواه مسلم]. بالإضافة إلى هذا، أن النبي قد علم أمته  – وهو القائد المرشد – إلى هذه الفضائل التي تجتمع في يوم الجمعة، وأرشد إلى الانتفاع بها بالصلاة والذكر والتقرب إلى الله.

جاء في المسند من حديث أوس بن أوس، عن النبي «من أفضل أيامكم يوم الجمعة. فيه خُلِق آدم، وفيه قُبِض، وفيه النَّفخة، وفيه الصَّعقة. فأَكثِروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ». قالوا: يا رسول الله، وكيف تُعرَض صلاتُنا عليك، وقد أرَمْتَ؟ (يعني: قد بليتَ)، قال: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ حرَّم على الأرض أن تأكل أجسادَ الأنبياء» [صحيح أبي داود].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «خيرُ يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خُلِق آدم، وفيه أُهبِط، وفيه تِيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة. وما من دابة إلا وهي مُصِيخة يوم الجمعة من حين تُصبح حتى تطلعَ الشمسُ شفقًا من الساعة إلا الجنَّ والإنسَ. وفيها ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلِّي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه»، وذلك في كل يوم جمعة. [الموطأ وصحيح أبي داود].

هذه الأحاديث وغيرها وهي كثيرة تثبت خصوصية هذا اليوم لأمة محمد وتجمع بين فضائل يوم الجمعة في الدنيا والآخرة:

أما شرف يوم الجمعة وفضله في الدنيا، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ جمَع فيه أمرَ الخلق. وأما ما يرجى فيه لأهله، فإنَّ فيه ساعةً لا يوافقها عبد مسلم أو أمة مسلمة يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاهما إياه.

وأما شرفه وفضله في الآخرة فإن الله تبارك وتعالى إذا صيَّر أهل الجنة إلى الجنة وأهلَ النار إلى النار جرَت عليهم هذه الأيامُ وهذه الليالي، ليس فيها ليل ولا نهار.. فإذا كان يومُ الجمعة حين يخرج أهل الجمعة إلى جمعتهم نادى أهلَ الجنة منادٍ: يا أهل الجنة، اخرجوا إلى وادي المزيد. ووادي المزيد لا يعلم سعتَه وطوله وعرضه إلا الله.. فهو يوم المزيد يزيد الله المؤمنين من أهل الجنة من الخيرات والإحسان، ويحل عليهم رضوان الله[1]. لذلك أطلق على يوم الجمعة بيوم المزيد إشارة ما ادخره الله للمؤمنين في جنات النعيم

وكان النبي في يوم الجمعة يغتنم جميع لحظاته بما يقربه إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة، ومن ذلك ما يأتي:

1 – كان من هدي النبي تعظيم يوم الجمعة، وتشريفه، وتخصيصه بعبادات يختصَّ بها عن غيره، وكان الرسول يقرأ في فجره بسورتي (الم تنزيل) السجدة و (هل أتى على الإنسان). وذكر العلماء حكمة قراءة هاتين السورتين فجر يوم الجمعة:

جاء في زاد المعاد لابن القيم “أن النبي – – كان يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة لأنهما تضمَّنتا ما كان ويكون في يومها، فإنهما اشتملتا على خلق آدم وعلى ذكر المعاد وحشر الخليقة، وذلك يكون يوم الجمعة، فكان في قراءتهما في هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه ويكون.

2- استحباب كثرة الصلاة على النبي على وجه الخصوص، جاء الأمر بذلك يوم الجمعة وليلته من السنن الثابتة، وقد تقدم الحديث في رواية أوس بن أوس رضي الله عنه، يقول: “فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ “.

وقد أحسن ابن القيم حين أشار إلى فائدة إكثار الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلته فقال:

“رسول الله – – سيِّد الأنام، ويوم الجمعة سيِّد الأيام، فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره، مع حكمة أخرى وهي أنَّ كلَّ خير نالته أمته في الدنيا والآخرة فإنما نالته على يده، فجمع الله لأمته به بين خير الدنيا والآخرة. وأعظمُ كرامة تحصل لهم فإنها تحصل يوم الجمعة، فإنَّ فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة. وهو عيدٌ لهم في الدنيا، ويومٌ فيه يُسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم، ولا يردُّ سائلهم. وهذا كلُّه إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده، فمِن شكره وحمدِه وأداءِ القليل من حقِّه – – أن يُكثَر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته”.

3- صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين. وكان النبي يغتسل لصلاة الجمعة ويتطيب ويتسوك ويرتدي أحسن ثيابه. وكان للنبي برد يلبسه في العيدين والجمعة. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان لرسول الله ثوبان يلبسهما في جمعته، فإذا انصرف طويناهما إلى مثله.

4- يستحب تجمير المسجد بالبخور، عن سعيد بن منصور عن نُعَيم بن عبد الله المُجْمِر أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أمر أن يُجْمِر المسجدَ مسجدَ المدينة كلَّ يوم جمعة حين ينتصف النهار. قلت: ولذلك سمِّي نُعيمًا المُجْمِر. وجاء في اللمعة: أن رسول الله أمر بإجمار المسجد يوم الجمعة[2].

5- وقد يسافر الرسول يوم الجمعة ولكنه يخرج ضحى قبل دخول وقت صلاة الجمعة[3]، وروى الثوري عن الأسود بن قيس، عن أبيه قال: أبصر عمر بن الخطاب رجلًا عليه هيئة السفر، فقال الرجل: إنَّ اليوم يوم الجمعة، ولولا ذلك لخرجتُ. فقال عمر: إنَّ الجمعة لا تحبِس مسافرًا، فاخرُجْ ما لم يحِن الرَّواح.

6 – التفرغ للعبادة، حيث يستحَبُّ التفرُّغُ في يوم الجمعة للعبادة، من قراءة القرآن والذكر الدائم والتطوع المطلق قبل الخطبة. فقد اجتمعت كل أنواع العبادات يوم الجمعة ففيه صلاة الجمعة التي آكد الصلوات والخطبة والتذكير، وبعد المغيب ساعة يستجاب فيها لكل إنسان يدعو.

7 – هدي النبي في خطبه: وكان رسول الله إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم. ويقول: “بعثت أنا والساعة، كهاتين” ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: ” أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة .

وقوله: “كان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش”: إشارة إلى حكم المحذر والمنذر، وأن تكون حركات الواعظ والمذكر وحالاته فى وعظه بحسب الفصل الذي يتكلم فيه ومطابق له، حتى لا يأتي بالشىء وضده، وأما اشتداد غضبه فيحتمل أنه عند نهيه عن أمر خولف فيه شرعه، أو يريد أن صفته صفة الغضبان عند إنذاره[4].

8 – وكان يُمهِل يوم الجمعة حتى يجتمع الناس، فإذا اجتمعوا خرَج إليهم، وكان من عاداته أنه كان يخرج وحده من غير شاويشٍ يصيح بين يديه، ولا لُبْسِ طَيلَسان ولا طَرْحَة ولا سَواد.

فإذا دخل المسجدَ سلَّم عليهم. فإذا صعِد المنبرَ استقبل الناسَ بوجهه وسلَّم عليهم. ولم يدعُ مستقبلَ القبلة. ثم يجلس، ويأخذ بلال في الأذان، فإذا فرغ منه قام النبيُّ – -، فخطَب من غير فصل بين الأذان والخطبة، لا بإيراد خبرٍ ولا غيره.

ولم يكن يأخذ بيده سيفًا ولا غيره. وإنما كان يعتمد على قوس أو عصًا قبل أن يتخذ المنبر. وكان في الحرب يعتمد على قوس، وفي الجمعة يعتمد على عصًا. ولم يُحفظ عنه أنه اعتمد على سيف[5].

9 – وكان يُقصِّر الخطبةَ ويطيلُ الصلاةَ، ويكثرُ الذكرَ ويَقصد الكلماتِ الجوامعَ،  وكان يقول: “إن طولَ صلاة الرجلِ وقصر خطبتِه مَئِنَّةٌ من فقهه “.

وكان يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي، كما أم الداخل في المسجد وهو يخطب أن يصلي ركعتين.

ونهى المُتخطِّي لرقابِ الناسِ عن ذلك، وأمرهُ بالجلوسِ.

وكان يقطعُ خطبتَه للحاجةِ تَعرِضُ، أو السؤالِ لأحدِ من أصحابِه، فيجيبُه، ثم يعودُ إلى خطبته، فيتمُّها.

وكان ربما نزلَ عن المنبرِ للحاجةِ ثم يعودُ فيتمُّها، كما نزلَ لأخذِ الحسنِ والحسينِ، فأخذهما ثُم رَقِيَ بهما المنبرَ، فأتمَّ الخطبةَ.

10 – وكان يأمرُهم في خطبتِه بمقتضَى الحالِ، فإذا رأى بينهم ذا فاقةٍ وحاجةٍ أمرَهم بالصدقةِ وحضَّهم عليها.

11- وكان يشيرُ بأصبعِه السبَّابةِ في خطبته عند ذكرِ الله تعالى ودعائه.

12 – وكان يَستسقي لهم -إذا قَحطَ المطرُ – في خطبتِه.

13 – وكان النبي – إذا صلَّى الجمعة دخل إلى منزله، فصلَّى ركعتين سنَّتها، وأمر من صلَّاها أن يصلِّي بعدها أربعًا.

اقرأ أيضاً:

سلسلة عن احكام يوم الجمعة

[1]  زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 453)، – ط عطاءات العلم.

[2]  اللمعة في خصائص الجمعة، السيوطي (44).

[3]  زاد المعاد في هدي خير العباد – ط عطاءات العلم (1/ 475)

[4]  إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/ 268)

[5]  زاد المعاد في هدي خير العباد ، المصدر السابق.