ماذا نقصد بختمة معرفية للقرآن الكريم؟ سؤال مقترح وعالق بآي الذكر الحكيم في متابعة لتنبيهاته، ودعواته وتصريفاته المحكمة للعقل، أن يتدبر ويختبر ويكتشف، وأن يمارس مرانه الروحي والعقلي، حيث يتدرج المؤمن قراءة فيزداد إيمانا وإسلاما.

فالقرآن يهدي للتي هي أقوم معرفيا، ومنهاجيا منتج للنور المتعالي من المشكاة صعودا إلى الكوكب الدري، وفي نفس الوقت عاكس له، وبقدر النور الساقط المتضمن للأدوات البحثية والتساؤلية، بقدر التدفقات والشعاعات المنعكسة من القرآن، “نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ” [النور : 35].

الدعوة للمران على الختمات المعرفية للقرآن هي دعوة مفجرة لوهجات الروح، وحيا إليك وروحا من أمر الله، تحتم النظر للنجوم القرآنية المتفرقة في تنزلاتها، بحسبانها كونا متسقا يستجيب للدواعي والوقائع المتجددة للجماعة المسلمة، وهي دعوة للتعاطي مع الطاقات القرآنية بمنطلق تشغيلي حركي وليس تبركيا، وتسييري للذكر بقواه التغييرية الدافعة بوصفها رافعة للإيمان الناهض، “فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ” [القمر : 15].

وفي قراءتنا المعرفية تلك نتفادى سباق الصوتيات الذي اختزل الترتيل في النطق الحسن المستقيم دون التمعن في معانيه النسقية والاستدلالية، كما فعل جيل التلقي من الصحاب الكرام الذين رتلوا القرآن بحسب حاجياتهم وتساؤلاتهم المعرفية والتأسيسية والتربوية والتشريعية.

وفي الدرس المعرفي القرآني تتراءى لنا تلك الطبقات القرآنية الكثيفة، وحقول دلالية لكلمات الله لا متناهية الغنى والثراء، وعالم مليء بالتوتر والانشداد الروحي والسؤالي، وتجول جديد دائما، ومدهش أبدًا للفظيات مألوفة، لكنها صارت بين يدي عالم القرآن خارقة في دلالتها محكمة في سرديتها بعدما انتظمت -بحسب الجاحظ– في صلات ترابطية، وبرأي الإمام الرازي: “أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط”، التي تتكامل وتتعاضد مع المفردات الكونية لينشأ متن الحضارة وسرديته الكبرى.

نجوم متعددة في كون واحد

والقراءة المعرفية تسعى لضم نجوم القرآن في كون واحد في وحدة بنائية واحدة -بحسب الدكتور العلواني-، حيث يحقق الوعي بالوحدة البنائية للقرآن في مذهب الفقيه ابن العربي “ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني”، وإن تتبع المعاني المتفرقة والتحققات المنزلة كفيل -بحسب الدكتور أحمد العبادي- “أن يحقق للبشرية وحدة معرفية تلملم شتات الإنسان المعرفي، وتوحد بين زوايا إدراكه، بما يشبه إكسابه جهاز تنسيق معرفي يمكنه من الخروج من التفرع الإدراكي ومرحلة الشركاء المتشاكسين، إلى صيرورته سلما لرب العالمين، فيطفق في السير سويا على صراط مستقيم”.

فانفصال الحدث لا يعني انتفاء الترابط والوحدة، كما يوضح الشيخ الدكتور عبد الله دراز شارحا “لو عمدنا إلى سورة من تلك السور التي تتناول أكثر من معنى واحد -وما أكثرها- وتتبعناها من مرحلة إلى مرحلة، وتدبرناها كيف بدأت، وكيف ختمت، كيف تقابلت أوضاعها وتعادلت، وكيف تلاقت أركانها وتعانقت (…) لو تدبرنا ذلك لوجدنا ائتلافا وتناسبا بين المعاني والمباني، ولبدت لنا السورة وكأنها نزلت في نجم واحد.

فهو نسق واحد مترابط ترابطا عقليا بين آياته وسوره، تلقفته قديما ذائقات كبار البلاغيين الاعتزاليين أمثال الجاحظ، والقاضي عبد الجبار الذي كتب عن نظرية النظم وأهمية دراسة القرآن من حيث نظمه وأسلوبه، وبحسبان تلك الكلية وجها من إعجازه.

يقول الجرجاني الذي دفع بذلك التوجه إلى أقصى درجاته: “ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها سببا لبعض”، فالجزئي القرآني من الكلي البياني، في النظر للسورة الواحدة بحسب الشاطبي، وآيات القرآن فرقانا وبيانا وذكرا وشفاء وهدى وبرهانا ونورا، “لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ” [القيامة : 16 – 19].

وهذه الدراسات كانت مقدمة لتلك النزعة الكلية وإن كانت بدافع التفنيد والرد كما يرصد الباحث السوري عبد الرحمن حللي، الذي يرى أنه بجانب تلك النزعات الشاملة والتركيبية للقرآن كانت هناك منهجيات تولدت بعضها من بعض للتعامل مع القرآن، وصلت مع عهد التابعين لمنهجية التفسير بأنواعه ودرجاته، ومعظمها غلبت عليها التجزئة والبحث في المفردات والألفاظ، والاستنباط الفقهي والتفريع الدلالي، والتعامل مع القرآن كأجزاء وسور تفسر واحدة تلو الأخرى.

ويظل للباحث الياباني المسلم توشيهيكو إيزوتسو والأستاذ في جامعة طوكيو أهمية خاصة، والذي قدم محجة منهجية ناصعة البياض عبر كتابه “الله والإنسان في القرآن” من خلال اكتشاف الرؤية القرآنية للعالم، بحسبان القرآن بنية متكاملة، وأن كلماته المفتاحية كانت كلها تقريبا مستخدمة قبل الإسلام، وعندما شرع الوحي في استخدامها كان النظام كله والسياق العام الذي استخدمت فيه هو الذي صدم المشركين، وما جد برأيه أن القرآن أدخل أنظمة مفهومية مختلفة، جمعها الإسلام ودمجها جميعا في شبكة مفهومية جديدة تماما ومختلفة ومجهولة حتى الآن.

ويقترح حللي في دراسة جادة له عن توظيف مفهوم البنية القرآنية في القراءة والتلاوة، حيث تأتي كلمات الله على صورتين، تكوينية تتمثل بالكون والأشياء، وتكليفية تتمثل بالنصوص المتضمنة للتعاليم الإلهية، فالكلمات هي أجزاء الكون وأجزاء النص، وهي قابلة للقراءة والمعاينة والاعتبار، عبر مفهوم البنية القرآني بوصفه نسقا عقلانيا يحدد وحدة الشيء، وهي القانون الذي يفسره من خلال مفردات البنية وأجزائها والقانون الذي يفسرها هو الروابط بين الأجزاء.

إذن القرآن في الدرس المعرفي هو جمل وآيات وعبارات تشكل نجوما، يمثل النجم فيه الآية وحدة صغرى، كما يقول طه العلواني مجددا في نظريته المهمة عن الوحدة البنائية للقرآن: “وحين يتم تسوير مجموعة من النجوم أو الآيات تتكون السورة، وذلك يعني أن وحدة كبيرة قد تشكلت من الوحدات الصغرى، والقرآن الذي ضم بين دفتيه تلك الوحدات الكبرى، والإعجاز القرآني، والسياق والتناسق والترابط، والنظم ووحدة المقصد والهدف والغاية، ووحدانية المخاطب، وواحدية المتلقي، ووحدة المخاطب، كل ذلك وكثير غيره يجعل القرآن كآية واحدة، ويجعل من الآية الواحدة ممثلا لجملة القرآن المجيد ونموذجا له، وإذا ذكرت الآية ذكر القرآن، وذكر القرآن يستدعي آياته وسوره والمعاني الغزيرة التي اشتمل القرآن الكريم عليها، حتى صار تبيانا لكل شيء، ومعدلا للكون وحركته، بحيث يستوعب هذه الحركة ويتجاوزها، وبتلك الواحدية التوحيدية ينبثق التعدد والتنوع والثراء المنهاجي والمعرفي”.

مفهوم الترتيل سباق الصوت والفكر

وفي سياق التحقق المعرفي للقرآن هناك وقفة حول التسابق من أجل إنجاز كم معين من الحركة اللسانية عجلة في تحصيل الأجر، أو الختمات الكثيرة.. يقول ابن مسعود رضي الله عنه في وصف القراءة التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن: “قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب”، وابن عمر رضي الله عنه جلس في تعلم سورة البقرة ثماني سنين، ويضيف أبو عبد الرحمن السلمي: “كان الذين يقرءون القرآن من صحابة رسول الله عثمان وأبي بن كعب وغيرهم ممن كانوا يُقرئون التابعين يقولون: “كنا على عهد النبي لا نتجاوز العشر آيات حتى نعرف ما فيها من القرآن والعلم والعمل فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا”.

كان بعض السلف الصالح يقول: “إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهم؛ بكيتُ على نفسي؛ لأن الله تعالى قال: “وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ” [العنكبوت : 43].

لذا فرق الأوائل بين العلم والروح العلمية، وذكر “أبو حامد الغزالي” أن الصحابة كانوا يعتبرون من يحفظ ويفهم الأجزاء المحدودة من القرآن من العلماء، يقول الشيخ الغزالي: “يُخيل إليَّ أن بعض الكتاتيب أساءت إلى القرآن من حيث تريد الإحسان من ناحية أنها أخرجت أشرطة مسجلة ولم تخرج نماذج حية”.

وإذا كانت القراءة التدبرية للقرآن هي جماع الاتفاق بين المعقول والمنقول، نجد لزاما أن نعيد ضبط مفهوم الترتيل بمستوياته المتعددة التأسيسي المنسوب إلى الله تبارك وتعالى “ورتلناه ترتيلا”، والمستوى التكليفي التشغيلي والمخاطب به محمد (صلى الله عليه وسلم) مجسدا الجماعة “ورتل القرآن ترتيلا”، وبحسب ما نقل الدكتور أحمد العبادي عن الإمام ابن عاشور أنه برغم اتفاق أقوال أئمة أهل اللغة على أن الترتيل مأخوذ من النضد والاتساق ومن التنسيق، ومن الانتظام على استقامة، يقصرونه على الجانب الصوتي منه؛ بمعنى “إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة.

لكن تجديد مفهوم الترتيل بحضوره الطاغي في وجدان الأمة، يتجلى من خلال الكشف عن البيان القرآني والبيان الكوني، كمفاهيم وأنساق، وكلمة وكتاب، حيث تتقارب كلمات الله “أجزاء النص”، و”أجزاء الكون” استعارة من حللي وكلاهما آيات لها تلاوتها وقراءتها، وتلك القراءة لا تنفد ولو نفدت طاقة الإنسان في تأمل نواميسها ودساتيرها، ومن هذه المقابلة والتواصل بين التلاوة العمرانية لكلمات الكون والتلاوة المعرفية لكلمات القرآن، ينبثق مفهوم الترتيل بوصفه، تنويعات التأمل والتدبر للكتاب التكليفي “القرآن”، والكتاب التكويني “الكون”، وينشأ “العقل المرتل” الجامع لخصائص الجمال والتناسق الذي ينظم خيوط المنهج وإن تفرقت حقائقه نجوما كونية أو قرآنية.

عبدالله الطحاوي


هوامش ومصادر:

(1) طه جابر العلواني، الوحدة البنائية للقرآن المجيد، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى مارس 2006.

(2) مفهوم الترتيل في القرآن الكريم:النظرية والمنهج الدكتور أحمدالعبادي

(3) الدكتور عبد الرحمن حللي بنية القرآن كمدخل لإعادة القراءة، دراسة منشورة على موقع الملتقى

(4) يوشيهيكو إيزوتسو بين الله والإنسان في القرآن:دراسة دلالية لنظرة القرآن إلى العالم، ترجمة الدكتور عيسى العاكوب، الطبعة الأولى 2007.