من أين نبدأ رحلة التطوير الشخصي؟ سؤال مهم وجوهري، تمثل الإجابة عنه مرحلة جديدة كليا عما قبلها. في دراستنا المنشورة بعنوان “نحو مفهوم جديد للهوايات” قدمنا فكرة أكثر فاعلية وإيجابية فيما يتصل بالأنشطة المفضلة. من المهم أن تقوم برامجنا التدريبية على فكرة “تعزيز الأنشطة الجارية” للمتدرب، ومن ثم المضي قدما بناء على ما يقدمه من تفاعل واستجابات وتقدم. إن الفكرة المهمة هنا، أن ندرك ما بين “الأنشطة المفضلة” و”الأنشطة الجارية” من صلات وعلاقات، من شأنها الإسهام في تعزيز أنشطة المتدربين، وترقية معظم أنشطتهم إلى مصاف “المفضلة”.

لماذا التركيز على الأنشطة؟

من الشائع تعليميا وإعلاميا، التركيز على مفردات الإبداع والتميز والمهارة والموهبة… الخ. وإن كان من تفسير لما وراء ذلك التركيز، فليس سوى اهتمام بالقيم “المتطرفة” حسب لغة الإحصاء. في ثقافتنا الاجتماعية عادة ما نميل الى التطرف، والتركيز على “الدرجة الكاملة” مما يتسبب في إشكاليات مركبة، يتعسر علينا تجاوزها غالبا. في توظيفنا للمفهوم الجديد للهوايات، نعمل على التعامل مع “الأنشطة” في صورتها الطبيعية “العادية” دون إضافات أو أوصاف أخرى. ومن ثم العمل على تنميتها وتعزيزها، دون التركيز على صورتها من “الخارج” مهما كانت.

 لتقريب فكرة التعامل مع “الأنشطة” لنضرب مثلا بالكتابة كأحد الأنشطة “الجارية أو المفضلة” للمتدربين. في فكرتنا لتطوير “الأنشطة” وتعزيزها، نعمد إلى تحريرها من الصورة الاجتماعية وهي ما نطلق عليه “الصورة من الخارج”، وفي مثال “الكتابة” فإن صورتها الاجتماعية كالآتي: (الكتابة إبداع، الكتابة موهبة، الكتابة شاقة وعسيرة وتتطلب ثقافة واسعة ومعرفة دقيقة بالنحو وقواعد اللغة… الخ). أما صورتها الطبيعية، فإنها نشاط عادي في سلة أنشطتنا الجارية، وليست بكل تلك الأشكال والقيود. وهكذا نعمل على نقلها من سياق الاستعراض إلى سياقات طبيعية أخرى كالتعلم والتواصل، بوصفها أداة مهمة وضرورية لكليهما.

الأنشطة.. تكامل وتشابك

إن ما نطمح إليه من تقدم شخصي فعال، ليس مرتبطا بكثافة ما نحصل عليه من معلومات، أو برامج عالية الثمن. إن الخطوة الأولى في التقدم أن نبدأ مما نحن عليه الآن، بالشروع في تعزيز أنشطتنا الجارية وتطويرها بما يتناسب مع قدراتنا واحتياجاتنا.

في دراسة “مفهوم الهوايات” قدمنا تصنيقا جديدا للأنشطة المفضلة، ومن المهم ذكره في هذا السياق، أن تصنيف الأنشطة مجرد خطوة أكاديمية لشرح الفكرة، وتيسير استيعابها، أما الأنشطة نفسها فمن طبيعتها الترابط والتشابك، وان ما بينها من تباين ليس سوى فرصة ومدعاة للتكامل والانصهار. في تصنيفنا للأنشطة وضعنا المعرفة والتعلم في المقدمة، ومن ثم الرياضة والعمل والتطوع، وقد افترضنا أن عامة أنشطتنا قابلة للتصنيف تحت الأقسام الأربعة المذكورة.

كيمياء العلاقات بين الأنشطة

تبدو أنشطة “المعرفة والتعلم” الأوفر حظا في سلة الأنشطة المفضلة للطلاب وهواة المعرفة. وما أجمل رحلة التطوير حين تعزز أنشطة التعلم وتنميها. وحسب نموذج ASC وهو من تطبيقات التجديد في مفهوم الهوايات، فإن “العمل” نفسه من أنشطة المعرفة والتعلم بوصفه ميدانا لتطبيق المعرفة واختبارها في ذات الوقت. أما التطوع فإنه نشاط عملي بطبيعة الحال، وإن كان ثمة تباينا بينهما، فذلك في الدوافع والمقابل. وينظر النموذج إلى أنشطة الرياضة والترفيه،  كاحتياج وضرورة للصحة البدنية والنفسية، ولا يخفى ارتباط الصحة بجميع ما نقوم به من أنشطة.

ويوفر نموذج ASC أداة من شأنها الإسهام بفاعلية في إنجاح برامج التطوير، وذلك بتقديمه قراءة جيدة لأنشطة المتدربين تحت العناوين الأربعة سابقة الذكر، بما يعرف المتدرب بمسارات أنشطته الجارية، وما يتوفر بينها من صلات وعلاقات، كخطوة أولى في رحلة التقدم والنمو الشخصي.

خطة الانشطة الأربعة

في برامج تطوير الهوايات، عادة ما نفتقر إلى أدوات وخطط من شأنها تعزيز التعلم وتحقيق قدر عال من الفاعلية والتأثير، فضلا عن عدم توفر أدوات جيدة لقياس النتائج. فيما يلي، سنتعرف على خطة مقترحة لبرامج التنمية الذاتية، في مسعى لتعزيز نجاحات البرامج الجارية، والتمهيد لأفكار جديدة في ذات الميدان.

 تفترض “خطة الأنشطة الأربعة” أن عامة أنشطتنا الشخصية قابلة للتصنيف تحت أربعة عناوين رئيسية، ويضم كل منها تفاصيل وأمثلة قد تتباين لدى الأشخاص، لكنها متجانسة بدرجة عالية في العناوين الكبيرة. وتعتمد الخطة على مفهوم جديد للهوايات، يعرف الهوايات بأنها جميع الأنشطة المفضلة للشخص، ويصنفها إلى أربعة أنواع هي المعرفة والرياضة والعمل والتطوع. وتأسيسا على التصنيف المشار إليه، فإن المعرفة تمثل العنوان الأول في “رباعية الأنشطة” وتليها الرياضة، فالعمل، ثم التطوع.

 وأقصد بالمعرفة كل الأنشطة المتصلة بالتعلم والتحصيل المعرفي، بغض النظر عن أدوات التعلم ووسائله، وما إذا كان مؤسسيا نظاميا أم حرا مفتوحا.. أما الرياضة فأقصد بها “كل الأنشطة المتعلقة بالرياضة والترفية والألعاب، بمختلف صورها وأنماطها”. وأعني بمنشط العمل “جميع الأنشطة المهنية والإنتاجية، وكل ما يطلق عليه عملا في العادة”.. ويلي العمل، النشاط التطوعي وإن كان في حقيقته، نوعا من ضروب العمل، إلا أن طبيعته ودوافع الإقبال عليه عادة ما تكون مختلفة عن العمل التقليدي الهادف إلى تحقيق عوائد مادية محددة.

تواصل تدريبي أكثر جودة

في خطة الأنشطة الأربعة، يهتم (المعلم/ المدرب) بالتعرف على طبيعة وتفاصيل كل من الأنشطة الأربعة لدي كل (متدرب) على حدة، في محاولة من الخطة للتخلص من عادة “الوصفات السحرية” الشائعة في كتب ودورات التنمية الذاتية. إن تطبيق خطة الأنشطة الأربعة من شأنه بناء تواصل أكثر جودة بين المدرب والمتدرب؛ حيث يشعر الأخير بملامسة البرنامج التدريبي لأنشطته الفعلية ومخاطبته لما وراءها من احتياجات. على سبيل المثال، فإن التعرف على الأنشطة المعرفية الجارية للمتدرب يمنحه فرصة لاكتشاف ما يربط بينها من صلات وعلاقات، والتعرف على ما تعبر عنه من قدرات وملكات.. فضلا عن لفته إلى الاهتمام بمدى علاقتها بما يطمح إليه مهنيا واجتماعيا.

 تهتم الخطة بما يتوفر من علاقات بين الأنشطة الأربعة للمتدرب؛ للتعرف على العلاقات الداخلية بينها، وما يربطها مجتمعة بما يطمح إليه المتدرب من نجاحات في المستقبل. ويعد اكتشاف العلاقات بين المفردات مرحلة متقدمة في التعلم والمعرفة تتطلب تفكيرا وتأملا وجهدا ذهنيا، مما يدفع بقدرات المتعلم وينميها.

تغيير طفيف.. نتائج كبيرة

إن أنشطتنا الجارية ليست سوى شخصياتنا، بكل ما نملكه من قدرات، وما نمتاز به من خبرات وجدارات، وما نطمح إليه من نجاحات.. ولعل “خطة الأنشطة الأربعة” محاولة مهنية لتقديم (تقنية) سهلة من شأنها تعزيز نجاحات البرامج التدريبية ذات الصلة، وتحفيز شركاء التدريب ودعم جهودهم الهادفة إلى تنمية الإنسان.

وقد علمتنا التكنولوجيا أن تغييرا طفيفا في إعدادات الهاتف مثلا، قد يمنحنا نتائج مبهرة، وتغيرا كبيرا في واجهة التلفون ووظائفه.. وقل مثل ذلك في الريسيفر وغيره من أدوات العصر. وفي حقل التعليم والتعلم، نحتاج إلى سلسلة عمليات ﻹعادة ضبط المصطلحات والإجراءات والأنشطة والخطط، بغرض تحريرها من أسر السنين، ومن تراكم المفاهيم الخاطئة أو غير الفعالة. إن كل جهد نبذله في ميدان التعليم، لن يقتصر أثره في نفس الدائرة فحسب، بل سيتعداها إلى جميع الحقول والأنشطة والمجالات.

نموذج ASC وتعزيز حب المعرفة

نموذج آسك: استمارة “سيرة ذاتية للطالب”، وتعد سيرة الطالب student cv أداة مهمة لمتابعة نموه الشخصي في الجوانب المضمنة في  الاستمارة.. وتتضمن سيرة الطالب حسب نموذج ASC ثلاثة عناصر رئيسة هي (المواهب والهوايات والطموحات).

تستخدم أداة آسك في اكتشاف مواهب الطلاب وهواياتهم وميولاتهم، وطموحاتهم المستقبلية، وتمثل الهوايات أفضل وسيلة لاكتشاف العلاقات المتوفرة بين قدرات الطالب وملكاته من ناحية، وطبيعة ميولاتته، وطموحاته المستقبلية. بحسب النموذج، فإن الهوايات Hobbies عبارة عن سلة الأنشطة المفضلة للشخص، وتصنف إلى أربعة أقسام تتصدرها “المعرفة” وما يتصل بها من أنشطة التعلم والتحصيل العلمي، بمختلف أدواته وقوالبه وإطاراته.

إن ثمة تغيرًا كبيرًا ينتظر أن يضيفه نموذج “ASC” فيما يتعلق بنظرة الطالب للمعرفة، و”تحسين مستوى الاهتمام بها”، حسب تعبير طالب بالثانوية.

ويهدف النموذج من وضع النشاط المعرفي في سلة هوايات الطالب، إلى ترقية المعرفة والتعلم إلى مرتبة الأنشطة المحببة، أسوة بالرياضة والترفيه.

 إن ما يقوم به “ASC” محاولة لتوظيف العقل الباطن في ربطه بين المفردات والأحداث، وإنتاجه مشاعر متماثلة برابط التزامن. ولك أن تتخيل ما سيجنيه مستخدم النموذج وهو يقبل على المعرفة كنشاط مفضل في سلة هواياته، وما يرسخه ذلك من حب للمعرفة.

قد تكون مهمة المعلم في ترسيخ “حب المعرفة” شاقة بدرجة كبيرة؛ نسبة لما تصنعه البيئات الاجتماعية من معاجم الواقع، وتحديدها لأوزان الأشياء وأدوارها، ومن ذلك المعرفة بالطبع. إن تأكيدنا على صعوبة مهمة المعلم، ليست سوى تنبيه؛ حتى لا يتخطفه اليأس حين يتبنى معظم الطلاب تفسيرات الواقع المزرية بالمعرفة والتعلم، ولا يحطمه الإحباط وهو يشاهد تباين الأوزان على صفحة الواقع.

الإتقان وليد الشغف

“إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه” حديث شريف إن حب العمل لا ينفصل عن «حب للمعرفة»؛ بالنظر إلى أن «العمل» نفسه ليس إلا ضربًا من ضروب «المعرفة» ودرجة من درجاتها. ولنا أن ننظر إلى العمل بوصفه تطبيقًا للمعرفة، ومنتجًا لها في نفس الوقت.

وإتقان العمل درجة أرفع من مجرد أدائه، ولا تخفى صلة ما بين الإتقان وحب العمل. إن المتقن لعمله المتفاني فيه هو ذلك المتعلق بمهنته ومجاله، الشغوف بهما، لا ذلك المؤدي لمهامه بدافع الواجب في أحسن الأحوال، إن لم يكن مجبرًا عليها ومضطرًا.

اهتمامنا بترسيخ «حب المعرفة» والشغف بها في نفوس الطلاب مبكرًا وهم في أطوار التشكل والنضوج، يتسق مع رغبتنا في التعامل معهم، فيما بعد- كمهنيين ومختصين أكثر حبًا وشغفًا لأعمالهم بمختلف ضروبها، بغض النظر عما تصنعه معاجم المجتمع ولغة الواقع من تصنيف وتمييز بين الأعمال والمهن.

ومن ينشأ في حبٍّ للعلم والاكتشاف، سيكون محبًا لتطبيقات ما تعلمه في المستقبل، بوصفها مجرد خطوات جديدة في مشوار التعلم، وحلقات معرفية جديدة يزين بها صدره، وينير بها ذهنه، وينفع بها الناس. إن تجديد مفهوم «الهوايات» لا تقف إيجابياته عند مرحلة «المعرفة»، لكنها تمتد إلى صويحباتها الأخريات في سلة هوايات الطالب. وبالاطلاع على النموذج تجد العمل work  تاليًا للمعرفة والرياضة، ويليه التطوع، وإن كان الأخير عملًا أيضًا، ولا يختلفان إلا في المقابل والدوافع.

 يقول أحد مستخدمي «ASC»: لا يقف النموذج عند مساعدتنا في اكتشاف هواياتنا المعرفية والمهنية، بل يطلب منا معرفة ما بينهما من علاقات أيضًا». ويعمل «ASC» على اكتشاف ما بين هوايات الطالب المعرفية والمهنية من صلات وروابط من شأنها نقل شغفه بالمعرفة إلى شغف مماثل وحب للعمل.