الحضارة الإسلامية حضارة مبدعة، وفي مجالات شتى، وهي لم تقف عند الفكر وحده، حيث حملت للناس منهج الله في الهداية والمعرفة، وإنما شملت جميع مناحي الحياة، لاسيما الفنون، وطَبَعتها بطابعها الجمالي الذي كان ترجمانًا أمينًا لمضامينها الفكرية. وقد أحسن الدكتور عبد السلام البسيوني، صاحب الإبداع المهم في عالم الخط العربي، حين رصد جماليات الفن الإسلامي من زاوية جديدة، تجمع بين الإبداع والتاريخ والاجتماع؛ ألا وهي زاوية “لافتات الشوارع”، خاصة لافتات شوارع القاهرة.

وقد جاء هذا الرصد الجمالي عبر ثلاثة كتب غير منشورة، وهي: لافتات شوارع القاهرة في جزءين؛

الجزء الأول: عن لافتات الميادين والشوارع، ثم الجزء الثاني عن لافتات الحارات والدروب والزقاقات والعطوف؛ ثم الكتاب الثالث عن: لافتات شوارع زفتى، حيث نشأ وترعرع خطاطنا المبدع.

وأوضح د. البسيوني أنه يهتم بلافتات الشوارع عموما ,لافتات شوارع القاهرة بوجه خاص، من حيث خطوط اللوحات، ومستوياتها، وتدرجها، ودلالاتها، ومآلاتها الحالية؛ وأن هذا التناول يمثل زاوية جديدة ذات جوانب: فنية، آثارية، تاريخية؛ وقلّ من يهتم بها، ويكتب عنها مجتمعة. ولذا فهو يطمع أن تكون هذه الكتب فريدة في بابها، طريفة في محتواها، تُسهم في تأريخ الفن، والعمران، وعلم الإنسان، وعلم الاجتماع.

وبيّن البسيوني أن مسيرة الخط العربي وتطوره وتنوع أشكاله، مسيرة حافلة، وأننا لا نجد في تاريخ الأمم أمة عُنِيت بخطها كما عُنيت أمة الإسلام، ولا فنانين عُنُوا بخطهم كما عُنِيَ الفنانون المسلمون، الذين فرّعوا قريبًا من 90 نوعًا من خطوط الحرف القرآني!

ورصد البسيوني أن أكبر مَن حافظ على الخط العربي في مسيرته؛ خلال القرون الخمسة الأخيرة هم العثمانيون؛ الذين كانوا حراس البوابة، وحملة الراية، وأنهم بلوروا أنواع الخطوط الرئيسة في شكلها الأخير.
وفي إطار الحديث عن لافتات شوارع القاهرة، ذكر المؤلف أن مصر اهتمت مع عهد محمد علي وأبنائه بالخط العربي؛ ربما تقليدًا للعثمانيين، وربما حرصًا منها عليه.. وأن الخديوي إسماعيل استقدم الفذ عبد الله الزهدي إلى مصر وأكرمه وقربه، وابنُه استقدم الشيخ عبد العزيز الرفاعي، وعلى أيديهما خرجت نخبة من الخطاطين المصريين الكبار العمالقة، الذي أثْرت بهم الحياة الفنية، وتاريخ الخط في مصر.

وأوضح البسيوني أن الخلفاء العثمانيين والخديوية في مصر كان من تقاليدهم إكرام الخطاطين الكبار، ومنحهم لقب “البكوية”، ونالها فعلًا في مصر عدد، منهم الزهدي بك، ومحمد جعفر بك، ومصطفى غزلان بك، ونجيب هواوينِ بك، وغيرهم.

الخط في الحياة العامة

ولفت د. عبد السلام البسيوني إلى أن الخط العربي كان قاسمًا مشتركًا في الحياة العامة والخاصة في مصر، فترى أبدع الخطوط، وأكثر اللوحات إبهارًا في المصاحف، والمساجد، والقصور، والدواوين، والأسبلة، والتكايا، والمعاهد الدينية، والشوارع، والجسور.. كما نجدها على واجهات المدارس، والجامعات، والمشروعات الخيرية، والمحلات، وأغلفة الكتب، وعناوين المجلات، وإعلانات الجرائد، وأفيشات السينما، وحتى على شواهد القبور.

وأضاف: في محاولة لاستقراء أسرار تسمية الشوارع في العواصم الكبرى؛ وجدتهم يسمونها وفق رؤًى معتبرة عندهم؛ فهي تسمَّى باسم زعيم، أو شخصية دينية مهمة، أو رمز اجتماعي، أو عالم، أو فنان، وربما سميت باسم مَعلم تاريخي، أو طبيعي شهير في المكان: كجبل، أو نهر، أو بحيرة، أو مبنى قديم، وربما سميت على نشاط تجاري أو صناعي، أو اتجاه جغرافي، وربما بأسماء أزهار، أو حيوان، أو قيمة إنسانية، وربما باسم عاصمة أو مَعلم في دولة أجنبية، وربما وفق حادثة تاريخية معينة، وربما كان للشارع دلالة رمزية ومعنوية مثل “شارع فليت”: شارع الصحافة في لندن، أو “وول استريت”: شارع المال في نيويورك.

من أنواع الشوارع والسكك:

ثم ذكر د. عبد السلام البسيوني بعض أسماء الشوارع والسكك، التي عُرفت في تاريخنا؛ ورَصَد أمثلة من اللافتات على ذلك. ومن هذه الأسماء:

المَيدَانُ:
وهو ملتقى الشوارع المتعدّدة، وهو ساحة أو أرضٌ متسعة معدَّة للسباق والرياضة ونحوهما. وفي القاهرة ميادين لا تعد؛ أشهرها: ميدان التحرير، وميدان رابعة، وميدان الدَّراسة، وميدان العتبة، وميدان ابن سندر، وميدان باب اللوق، وميدان بيربس، وغيرها.

الشَّارِع:
وهو طريق في مدينة يسلكه الناسُ. من شرَع الشَّيءَ: أعلاه وأظهره، ومنه: شرَع الطريقَ: مَدّه ومهّده، وشَرَعَ النَّافذَةَ إلَى الطَّريق: فَتَحَهَا، وشرَع المنزلَ: أقامه على طريق نافذ! والشارع الرئيسي: الطريق الأعظم، وهو طَريقٌ يختلفُ عن الزَّنْقَة؛ باتسَاعه وَطُوله.

الحَارةُ:
فهي محلة متصلة المنازل، أو: مدخل ضيق لمجموعة من المنازل. وقد اشتهرت رواية (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ، وأغنية (حارة السقايين).
ود. البسيوني ابن حارة تسمَّى: (حارة درب العيوش)، ويلاحظ ازدواج التسمية: بالجمع بين كلمتي حارة، ودرب! وهذا سيظهر في عدد كبير من الحواري كشارع الدرب الأحمر، وحارة الدرب الأصفر، وحارة درب المعمل، وحارة درب شاش، وغيرها.

العَطْفَة:
وهي من انْعَطَفَ الطريق: إذا مالَ وانحنى. وانعطف ناحية اليمين: تحول. ووقف عند انعطاف الطَّريق: النُّقْطَةُ الَّتي يَنْعَرج فيها الطَّريقُ، أو يَنْحَرفُ فيها. وقد اشتهر في الإعلام المصري: مسلسل (عطفة خوخة).

السِّكة/ السِّكك:
وهي الطريقُ المستوي، والسَّطرُ المصُطَفُّ من الشجر والنخيل. وسّكَّة الحديد: طريق معبَّد عليه قضيبان من الحديد متوازيان، تسير عليهما القُطُر الآلية.

الدَّرْبُ:
وهو المدخَل الضيق، وكلُ طريق يُؤدي إلى ظاهر البلد، وهو بابُ السكة الواسع، والموضّع يُجعل فيه التمر ليجف!

الزُّقَاقُ:
وهو الطريقُ الضيقُ نافذًا أو غير نافذٍ؛ وجُمعُه: أَزِقَّة. وتكثر الأزقة في المناطق الشعبية.

مستويات ومراحل اللوحات

وأوضح د. عبد السلام البسيوني أن كتابة اللوحات مرّت بمراحل، وتعاقب عليها خطاطون ذوو مستويات مختلفة:
ففي المرحلة الأولى: كتبت في براويز مستطيلة، أو أشكال بيضاوية أو دائرية على الطريقة الأوربية.. مثل:

ثم كتبت في المرحلة التالية النموذجية على سطر بالثلث الجلي الرائع الساطع الماتع، ثم على سطر أو سطرين بحروف لاتينية أقرب لترجمة النطق (كتابة لغة بحروف لغة أخرى) بالخط القوطي أو الروماني، لكلمة شارع أو حارة أو زقاق أو سكة أو نحوها.

وكان الخطاط أحيانًا: خطاط الحرمين عبد الله الزهدي (وهذا نادر جدًّا، ويمكن للخبير تمييز لوحاته).. أو محمد بك جعفر، الخطاط العظيم الذي كتب أكثر اللوحات.. أو الشيخ علي بدوي. وامتلأ مصر بخطوط أولئكم الأفذاذ، في مدنها وقراها؛ لينشروا سيمفونية من الجمال لا مثيل لها في عواصم العالم، ولنفتح أعيننا في طفولتنا الباكرة على قطع من الإبداع الذي لا يتكرر! ومن ذلك:

وغالبًا ما كانت اللوحات تُكتب في هذه المرحلة بخط التعليق المصري الناعم الجيد، وأحيانًا بشكل غليظ ولكن مقبول.. مثل:

ثم جاءت ثورة 1952 التي بدأت تغير بعض الأسماء التي لا تعجبها، وتضع محلها أسماء ثورية جديدة؛ مثل: شارع الجيش، أو التحرير، أو الثورة.

ومن أسماء الشوارع ما يحمل أسماء بعض المهن؛ مثل “شارع الكَحْكِيين”، في منطقة الدرب الأحمر، خلف الجامع الأزهر في وسط القاهرة. وقد سمُّي شارع الكحكيين بهذا الاسم؛ لأنه كان مخصصًا لصناعة الكعك (الكحك) منذ سبعة قرون. ويبلغ طول الشارع ثلاثمائة وعشرة أمتار.

كما أن من أسماء الشوارع ما له دلالة سياسية، مثل “شارع محمد على جناح” بجاردن سيتي، و”جناح” هو مؤسس باكستان وأول رئيس لها.

الجزء الثاني:
وهذه مجموعة متنوعة من لافتات “الجزء الثاني” من كتب د. عبد السلام البسيوني.. والذي خصصه عن: الحارات، والدروب، والزقاقات، والعطوف:

الجزء الثالث:
وأما “الجزء الثالث” فقد خصصه المؤلف للافتات بلدته مدينة زفتي.. ومن لافتات شوارعها:

هذه كانت إطلالة على عمل فني بديع؛ ضم جماليات الفن، مع معالم التاريخ، وعلامات الجغرافيا.. في مزيج فريد يعيد لذاكرتنا جمالاً نفتقده في حياتنا بعد أن سلَّمنا هذ المجال للآلة الصماء الجامدة- خطوط الكمبيوتر- فضاع علينا جمالٌ كثير، وإبداعٌ فائق!!