آيات الصيام خمس جاءت في سورة البقرة، فاصلة أولاها هي: ” لعلكم تتقون “، وآخرها كذلك: “لعلهم يتقون”، وبين الأولى والآخرة جاء في فاصلة الآية الثالثة: “ولعلكم تشكرون”، وفي فاصلة الرابعة: “لعلهم يرشدون”.

لن أتحدث عن التقوى ولا الشكر ولا الرشد بالتفصيل، وإن كانت ملفتة للنظر أن تجتمع في سياق آيات الصيام، فالله يريد منا مع الصيام أن نصل إلى درجة التقوى التي بها نستقيم ونخشى الله ونعظم شأنه ، فهذه الحالة من الصيام تسمح للنفس أن تسمو وللروح أن تشرق، فتزول كثير من الغشاوات التي لطالما أعمت الإنسان عن الحقيقة، وأضرت بالنفس فتمردت وتكبرت وطغت.

أما الشكر فعلی ما وفق الله ويسر، حيث جاء في معرض مبدأ التيسير في هذه الشريعة الغراء، ثم الشكر أيضا لأن الصيام في حد ذاته نعمة، فهو اكتشاف للذات، وبناء للإرادة، وقهر للنفس الطماعة الأمارة بالسوء.

والرشد كذلك مرحلة تدل على حكمة ورجاحة عقل، جاء في سياق الحديث عن الدعاء والخضوع لله والانكسار أمامه، فهو قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فليستجب المسلم له سبحانه ويؤمن به لعله يرشد بهذا الارتباط بالله وحسن الصلة الإيمانية به سبحانه.

إنما الذي أركز عليه في هذه السياقات هو فعل الترجي نفسه (لعل)، وتكرره في سياق آيات الصيام، فكأن الله تعالى يخاطب عباده المؤمنين بأن رمضان فرصة للتغيير، فهو بحد ذاته تغيير مادي واضح، حيث الامتناع عن الشهوات المألوفة لدى الإنسان، طاعة لله تعالى، وحين يحرم الإنسان نفسه من الشهوات فهو الرقي الروحي، والوقفة الجادة أمام حاجات كل من الروح والجسد، حين نسير في حياتنا مهتمين بالجسد على حساب الروح، وكل ما هو مرتبط بالروح من حقيقة العلاقة مع الخالق سبحانه، الذي ما خلقنا في الأصل إلا لعبادته وطاعته.

إن لم نتغير في رمضان فمتى نتغير؟ هو الدورة السنوية التي نختبر فيها أنفسنا، ونروضها لتسير في الطاعة طمعا في الاستمرار، أو لنقل هو محطة وقود نتزود منها لمسيرة عام كامل، حيث تبقى إشراقات الروح واقدام النفس بهمة عالية على الطاعة، وما أن تفتر إلا وقد جاء الموسم الآخر، وهكذا، فكيف إن كان التغيير الجذري، فأحسنا صلواتنا التي هي صلتنا اليومية بالله تعالى، وكيف إن زكينا أموالنا فكانت سببا في طهارة النفس وتزكيتها ونماء المال نفسه، وكيف إن سمت أخلاقنا واستشعرنا أن لبّ العبادات هي تهذيب السلوك، وفي هذا من القدوة وطيب المعشر وحسن العلاقة ما يكون سببا في السعادة والدعوة الصامتة، وبالتالي هذا التوفيق العام من الله تعالى للمجتمع أن يكون راقيا محمديا محفوفا برعاية الله تعالى.

كل منا له عاداته الإيجابية والأخرى السلبية، ومرة أخرى، إن لم تكن فرصة المراجعة الآن في رمضان فمتى تكون ؟ فنحن الآن أقرب إلى الله، وأدرى بحقائق الأمور، وأكثر بصيرة بأنفسنا: “بل الإنسان على نفسه بصيرة”، فلينظر أحدنا في الإيجابيات ليؤكدها ويجدد نية الإخلاص فيها. أما السلبيات فليستعرضها، ويعاهد الله تعالى أن يصوب مساره نحو الأفضل، وموقف المؤمن الحق أنه معرض عما نهاه الله عنه، مقبل ما استطاع نحو ما أمره الله به أو أغراه به.

آن لأحدنا أن يقف مع نفسه، يراجعها، يحاسبها، وكما قال بعض الصحابة: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحابوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل”.

كم منا مقصر في صلاته، مضيع لها، وربما لا يصلي، أو يصلي في المناسبات، فمتى تبني عمود دينك ؟ وكم منا من يصلي ولكنه لا يحافظ على صلاته، فمتى يدخل في قول الله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُم ْعَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُروجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُون َ* وَالَّذِينَ همْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ* أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالدُونَ} [سورة المؤمنون:1-11].

كم منا المقصر في أداء زكاة ماله، أو في صوم رمضان، أو في حج بيت الله ؟ وكم منا الذي لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا تعنيه شؤون المسلمين وأحوالهم، ولا يغار على حرمات الله، وكم منا الذي لا يتخلق بأخلاق الإسلام العظيم، حفظا للعورات وصونا للسان، وحسن معشر وحلم وكرم وصدق، وكم من نسائنا من تقصر في الحجاب ومستلزماته من العفة والحشمة والحياء.

وفي المقابل، كم منا الواقع في الكبائر والموبقات، مثل الربا والزنا والاستخفاف بالنفس البشرية والعقوق واكل حقوق الناس، أو اللهو واللعب والصد عن سبيل الله، وغير ذلك كثير.

ليس التغيير صعبا لأن رمضان ذاته كما قلت تغيير في روتين الحياة حين تمتنع عن المألوفات من الشهوات طاعة لله، وليكن التغيير في المقابل كما هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم ، هجرا كليا للمعصية: “ما نهيتكم عنه فانتهو عنه”، وترتيب الأولويات المأمور به، فيقدم الفريضة على غيرها: “وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم.

لا يعجبني أن يعاهد أحدنا الله تعالى على أمور كثيرة، ثم لا يوفي إلا بالقليل منها، فليعرف أحدنا قدر نفسه وهمته، فإن كان من أهل العزائم والهمم العالية فليفعل ذلك، وإن كان غير ذلك فليرتق بالتدرج، مع نية صالحة صادقة، فقليل دائم خير من كثير متقطع، ولكن على كل حال يحسن أحدنا ظنه بالله، أن يوفق ويثبت ويهدي إلى سواء السبيل.

رمضان فرصة عظيمة للتغيير، فالشياطين مصفدة، وأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النيران مغلقة، والنفحات الربانية متوفرة، والقلوب إلى ربها متوجهة، والشهوات في الغالب منطفئة، والبصيرة متوقدة، والأجواء في غالبها للخير محفزة، والأجور على الطاعات مضاعفة، فيا ترى: إن لم نغير أنفسنا الآن فإلى متى تبقى في غيها مستهترة، وفي سيرها متكبرة!؟

فاللهم رحمة منك تغنينا عمن سواك، يا رحمن يا رحيم، أنت أهل التقوى وأهل المغفرة.