قال تعالى: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} قرأ بها الإمام في صلاة الفجر، ولقرآن الفجر حلاوة وطلاوة خاصة قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} الإسراء-78.

فوجدت نفسي أردد مع الإمام تلك الآية ” لكل نبإ مستقر” ونسيت قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} الأعراف-204، ونسيت حديث أبي هريرة رضي الله عنه:” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: «هل قرأ معي أحد منكم آنفا؟»، فقال رجل: نعم، يا رسول الله، قال: «إني أقول مالي أنازع القرآن؟»، قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو عند مالك في موطئه وأبي دواود في سننه وصححه الألباني.

نسيت هذا كله؛ لجمال الآية وسلاسة لفظها، وإحكام معناها. وكل آي الكتاب كذلك: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} هود-1.

أدهشتني روعة الآية وبلاغتها، -وهذا مما يقع كثيرا-، ربما تحفظ الآية وتعرف معناها وما قيل فيها: تفسيرا، وتأويلا وإعرابا. فتقرؤها أو تسمعها ولا تستوقفك، ولا تسترعي انتباهك، رغم عظمة معناها وروعة مبناها، وأحيانا تتلوها في صفاء نفس وهدوء بال، أو تسمعها تتلى بصوت غض طري، فتأخذ بمجامع قلبك وكأنها الآن نزلت، ومن ذلك قصة أبي بكر رضي الله عنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم، فاضطرب حال المسلمين، وصاروا كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية كما تصفهم عائشة رضي الله عنها قال ابن رجب رحمه الله : “فمنهم من دُهش فخولط، ومنهم من أُقْعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية”، ومن هؤلاء عمر رضي الله عنه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمد قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلى الآية: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا}: فوقعت منهم موقعها ولكأن الناس ما سمعوها قبل ذلك اليوم وقال عمر رضي الله عنه: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض.

وعمر يعرف الآية ويعرف سبب نزولها لكن في تلك اللحظة بلغت منه مبلغا لم تبلغه منه قط، وحلت مكانا لم يكن حل من قبل.

وهذا هو ما وقع لي مع تلك الآية “لكل نبإ مستقر” حين تلاها الإمام بصوته الندي الخاشع، وجمح بي التفكير في معناها والتدبر فيها إلى مجاوزة ما ذكره بعض المفسرين فيها من أن النبأ إن كان خبرا فإلى الحقيقة المخبر بها يؤول ويرجع، وإلا لم تكن له حقيقة ولا مآل ولا مرجع بل كان كذبا وإن كان طلبا فإلى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع وإن لم يكن مقصوده موجودا ولا حاصلا.

وما ذكره بعضهم من أن لِكُلِّ نَبَإ من أخبار القرآن «مُسْتَقَرٌّ» ينتهي إليه إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معا في الوقت والمكان الذي قدر وقوعه فيه لا يتقدم ولا يتأخر ولا يتخلف.

وأدركت حينها سر القول بأن الوقف كاف على قوله: “لكل نبإ مستقر”.

واستملحت حينئذ ما ذكره أهل الرقية من أن هذه الآية تكتب على كاغد ويوضع على شق الضرس الوجع وأنه سيبرأ بإذن الله تعالى.

يقول البوطي في روائع القرآن: أنه ما قرأ هذه الآية {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، قال: إلا وتخيلت أن في جو السماء شبحا يسبح في أنحائه لا يدري الناس ما هو، والكل رافع رأسه محدق بنظره يتأمله وكلّ منهم يتوهمه حسبما يخيل إليه؛ والجميع ينتظرون ساعة هبوطه واستقراره في الأرض ليعلموا حقيقته وليتخلصوا من أوهامهم وتخيلاتهم فيه. إن الله عزّ وجلّ يصوّر الإخبار عن قيام الساعة وما يلوذ بها من الغيبيات، بصورة هذا الشيء الذي طاف حوله لغو كثير من القول، وأبى كثير من الناس أن يؤمنوا بحقيقته تبعا لما جاء من كلام رب العالمين، ليقول لهم إن لهذا الشيء مكانا وزمانا يستقر فيهما عيانا أمام أبصاركم، ولسوف تعلمون حينئذ”.

هذه الآية “لكل نبإ مستقر” تسري مسرى المثل والمثل كما قيل: كلام محكم بليغ موجز-غالبا-، إذا أُلقِي على المخاطَب وقع من نفسه موقعه، وسلّم به تسليما لا يقبل التردد، لمطابقته للقضية التي قيل فيها، أو للشأن الذي أريد بيانه.

“ويتميَّز المثل عن الأساليب البيانية بخصائص فنية، وسمات بلاغية كثيرة، جمعها القرآن الكريم في أمثاله، فكانت في الذروة العليا من البلاغة والتأثير في النفوس، لها جلال تشعر بوقعه القلوب المؤمنة، وجمال تستشفه الأذواق المعتدلة، ويجد فيها أصحاب الحسِّ المرهف كمالًا في رسم صور المعاني المرادة، لا يجدونه في غيرها”.

ودونك من ذلك مثلا قوله تعالى: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} وقوله: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} وقوله: {أَلَيْسَ الصّبْحُ بقَرِيب} وقوله: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} وقوله {ضَعُفَ الطالبُ والمطْلُوب} وقوله: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} وهلم جرا.

حكم التمثل بأمثال القرآن

بعض أهل العلم يبدي تحرجا من إرسال مثل هذه الأمثال في خطاب الناس بعضهم لبعض متعللا بأن الله تعالى: ما أنزل كتابه ليتمثل به، بل ليتدبر، ويتلى، ويعمل به، وأن جريان ذلك على ألسن الناس قد يؤدي إلى امتهان ينزه القرآن عنه ويصان.

ورأى آخرون أنه: لا حرج أن يتمثل الرجل بالقرآن في مقام الجد والبيان فيرسل مثلا من هذه الأمثال معظما له محليا به بيانه غير هازل ولا مستهتر، ولعل هذا القول هو الأقرب فلم يزل أهل العلم خلفا عن سلف يفعلون ذلك في كتبهم وخطبهم ومواعظهم ونحو ذلك دون نكير.

ومما يحسن إيراده في هذا المقام ما ذكره الشعبي، قال:” لقي عُمر بن الخطاب رَكْباً في سفر فيهم ابن مسعود، فأمر رجلاً يُناديهم من أين القوم، قالوا: أقبلنا من الفَجّ العَمِيق يريدون البيت العتيق.

فقال عمر: إن فيهم لعالماً، فأمر رجلاً أن يناديهم: أيّ القرآن أفضل، فأجاب عبد الله: {الله لا إلهَ إلا هو الحيّ القَيّوم}.

قال: نادهم أي القرآن أحكم، فقال ابن مسعود: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}.

قال: نادِهم أيّ القرآن أجمع، قال: {فمن يَعْمًلْ مِثْقال ذَرّة خيرا يرَه، ومَنْ يعمل مثقالَ ذَرّةٍ شرّاً يَرَه}.

قال: فنادهم أي القرآن أحزن، فقال: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}.

قال: فنادهم أي القرآن أَرْجَى، فقال: {يا عبادِي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقْنَطوا من رَحْمَةِ اللهِ}. فقال لهم عمر: أفيكم ابن مسعود، فقالوا: نعم”.


معاني القرآن للنحاس2/442.

الإكليل في المتشابه والتأويل لابن تيمية ص32.

البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/435.

الاتقان في علوم القرآن للسيوطي 4/.50

لباب النقول للسيوطي 1/90.

معترك الأقران للسيوطي 1/357.

مباحث في علوم القرآن لمناع القطان .296

من روائع القرآن للبوطي ص176.