لا شك أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وما انطوت عليه من سمو وتميز ورفعة، تمثل نبراسًا مضيئًا لمن يبحثون عن المُثل في رفعتها، وعن القيم في صفائها، وعن البطولة في نُبلها؛ فهو صلى الله عليه وسلم قد جعله ربه تعالى نموذجًا للإنسانية، تهتدي بهداه، وتقتدي بخطاه.. حتى يكون الناس أمام كتابٍ منزَّل يمثل “المنهج” في تجلِّيه الأعلى، وأمام نبيٍّ مرسَلٍ يمثل “النموذج” البشريّ الحيّ القدوة.

وقد جمع الله تعالى بين “النبي” و”القرآن”، في آية واحدة، في معرض الامتنان؛ فقال: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} (المائدة: 15). قال الطبري: “يَعنِي بالنور: محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ الذي أنار الله به الحقَّ، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك؛ فهو نور لمن استنار به يُبَيِّنُ الحق. ومن إنارته الحق، تَبيينُه لليهود كثيرًا مما كانوا يخفون من الكتاب”([1]).

فالنبي صلى الله عليه وسلم حياته ملأى بجوانب العظمة، وبمواطن العبرة والقدوة. وإذا كنا نحن المسلمين ننظر إلى حياته صلى الله عليه وسلم من زاوية النبوة، ومن كونه مُبلِّغًا رسالة الله تعالى إلى خلقه- وهذا أمر أساسي، وطبيعي في سياق الإيمان بنبوته ورسالته- فإن لغيرنا ممن لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم أن ينظر إلى حياته الشريفة بمقياس آخر غير مقياس النبوة؛ وهو واجِدٌ- حينئذ- من جوانب العظمة وعوامل الإبهار والاقتدار، ما يدفعه إلى إجلال هذا النبي الكريم وإعظامه.

وهذا ما دفع الأمريكيَّ “مايكل هارت”([2]) إلى دراسة حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى أن يجعله على رأس مائة شخصية هي الأكثر تأثيرًا في التاريخ.. وما جعل أيضًا العقادَ يكتب كتابه (عبقرية محمد)؛ فليس غرض العقاد أن يفصل النبوة عن حياته صلى الله عليه وسلم، وإنما أن يُبرز من هذه الحياة ما يناسب الناس جميعًا، ويخاطبهم على ما بينهم من اختلاف..

يقول العقاد رحمه الله: “عبقرية محمد” عنوانٌ يؤدي معناه في حدوده المقصودة، ولا يتعداها؛ فليس الكتاب سيرة نبوية جديدة، تضاف إلى السِيَر العربية والإفرنجية التي حفلت بها “المكتبة المحمدية”؛ لأننا لم نقصد وقائع السيرة لذاتها… وليس الكتاب شرحًا للإسلام أو لبعض أحكامه، أو دفاعًا عنه، أو مجادلة لخصومه؛ فهذه أغراض مستوفاة في مواطن شتى، يكتب فيها من هم ذووها ولهم دراية بها وقدرة عليها. إن الكتاب تقدير “لعبقرية محمد” بالمقدار الذي يدين به كل إنسان، ولا يدين به المسلم وكفى؛ وبالحق الذي يثبت له الحب في قلب كل إنسان، وليس في قلب كل مسلم وكفى. فمحمد هنا عظيم؛ لأنه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس”([3]).

وقريبًا من هذا، أراد “مايكل هارت” أن يرصد الشخصيات الأكثر تأثيرًا في التاريخ، بغضِّ النظر عن موقفها الديني وقداستها. [الشخصيات الأكثر تأثيرًا؛ وليس الشخصيات العظمية أو الأكثر عظمة في التاريخ، كما يُفهم من الترجمة العربية]([4]).

وقرَّر هارت أن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الأكثر تأثير في التاريخ، مستندًا إلى عدة عوامل ومقاييس، تستحق أن نقف معها ونتأملها؛ لأنها تجعل من النبي صلى الله عليه وسلم قدوة ومثالاً حتى لغير المؤمن بنبوته ورسالته..

أربعة مقاييس

وأما المقاييس التي انطلق منها مايكل هارت في رصده، فهي:

1- أن النبي صلى الله عليه وسلم “هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي”:

نعم؛ فعهدنا برجال التاريخ إما أن يكونوا من ذوي الإسهام في جانب الروح زهدًا وورعًا وتقوى، وإما في جانب المادة توسعًا ومُلكًا.. وقلَّما نجد من يجمع بين الأمرين، ولو بالحدود الدنيا. أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان مثالاً في الأمرين؛ لأن حياته تجسيد لرسالته، ورسالته جامعة بين الأمرين معًا: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 77).

2- أن أثر محمد عليه الصلاة والسلام “ما يزال قويًّا متجددًا”:

وهذا ملحوظ لا شك فيه، مهما عَرَا المسلمين من وهن وضعف؛ فما دام كتابهم محفوظًا، فإن جذوتهم ستظل متقدة، وقوتهم ستظل قابلة للانبعاث، رغم ما يتراكم عليهم من المحن، وما تأخذ الشدائدُ من قوّتِهم.

إن هذا التجدد مرتبط بما تختص به رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من أنها الرسالة الخاتمة، فلا رسالة بعدها؛ ولهذا كانت أمتُه صاحبةُ تلك الرسالة قادرةً على التجدد على الدوام، وعلى العطاء باستمرار. والتاريخ خير شاهد؛ فقد مرَّت على المسلمين محن وأزمات كانت كفيلة باستئصال غيرهم، مثل محن التتار والصليبيين؛ لكن الله سلَّم وأمدَّهم بمدده، وحفظهم حتى استعادوا عافيتهم، وقهروا عدوهم، بل حتى دخل بعض هؤلاء الأعداء في “الدين” الذي غلبوا أهلَه من قبل!

3- أنه صلى الله عليه وسلم نشأ في بيئة ليس لها سابقُ عهدٍ بالحضارة والمدنية:

بخلاف من أثّروا في تاريخ الإنسانية، الذين “وُلدوا ونشأوا في مراكز حضارية، ومن شعوب متحضرة سياسيًّا وفكريًّا”.

أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد نشأ “في مكة جنوب شبه الجزيرة العربية في منطقة متخلفة من العالم القديم، بعيدة عن مراكز التجارة والحضارة والثافة والفن. وقد نشأ في ظروف متواضعة وكان لا يقرأ ولا يكتب”.

نعم، إن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن نتيجة تراكمات حضارية للواقع الذي نبتت فيه، حتى لا يزعم زاعم أن صاحب الرسالة قد ورث الأمر عن أجداده، أو تعلَّم في رحاب حضارة سابقة. فكان اختيار الله تعالى لهذه البقعة من الأرض، فيه حكمة قاطعة بأن تلك الرسالة العظيمة المعجزة ليست إلا وحيًا يوحَى، وبلاغًا من الله إلى عباده: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} (العنكبوت: 48، 49).

4- أنه صلى الله عليه وسلم استطاع أن يوحِّد العرب:

وكانوا من قبلُ قبائل متفرقة متناحرة، لم تجمعهم رابطة، ولم ينتظمهم مُلك؛ وما عرفوا الوحدة إلا في ظل الإسلام، وما نعموا بالأخوة إلا بفضله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران: 103).

فالنبي صلى الله عليه وسلم- كما يرصد هارت- “استطاع، ولأول مرة في التاريخ، أن يوحّد بينهم، وأن يملأهم بالإيمان وأن يهديهم جميعًا بالدعوة إلى الإله الواحد. ولذلك استطاعت جيوش المسلمين الصغيرة المؤمنة أن تقوم بأعظم غزوات عرفتها البشرية؛ فاتسعت الأرض تحت أقدام المسلمين من شمالي شبه الجزيرة العربية وشملت الإمبراطوريةَ الفارسية على عهد الساسانيين، وإلى الشمال الغربي واكتسحت بيزنطة والإمبراطورية الرومانية الشرقية. وكان العرب أقل بكثير جدًّا من كل هذه الدول التي غزوها وانتصروا عليها”.

فهذه أربعة أسباب جعلت “مايكل هارت” يضع النبي صلى الله عليه وسلم على رأس قائمة الشخصيات الأكثر تأثيرًا في التاريخ..

لماذا محمد قبل عيسى؟

ثم بعد ذلك يشير هارت إلى أن البعض قد تأخذه الدهشة من أنه جعل النبيَّ محمدًا على رأس القائمة، بينما جاء عيسى في الترتيب الثالث؛ رغم أن عدد المسيحيين ضعف عدد المسلمين.

ويفسر هارت ترتيبه هذا، بثلاثة أسباب، تلقي ضوءًا مهمًّا على طبيعة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهي:

أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان دوره أخطر وأعظم في نشر الإسلام وتدعيمه وإرساء قواعده شريعته، أكثر مما كان لعيسى عليه السلام في الديانة المسيحية؛ فعلى الرغم من أن عيسى عليه السلام هو المسئول عن مبادئ الأخلاق في المسيحية، غير أن القديس بولس هو الذي أرسى أصول الشريعة المسيحية، وهو أيضًا المسئول عن كتابة الكثير مما جاء في كتب (العهد الجديد).

أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو المسئول الأول والأوحد عن إرساء قواعد الإسلام وأصول الشريعة والسلوك الاجتماعي والأخلاق وأصول المعاملات بين الناس في حياتهم الدينية والدنيوية؛ كما أن القرآن الكريم قد نزل عليه وحده، وفي القرآن الكريم وجد المسلمون كل ما يحتاجون إليه في دنياهم وآخرتهم .

ب- أن القرآن الكريم نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم كاملاً، وسجلت آياته وهو ما يزال حياً، وكان التسجيل في منتهى الدقة، فلم يتغير منه حرف واحد؛ وليس في المسيحية شيء مثل ذلك، فلا يوجد كتاب واحد محكم دقيق لتعاليم المسيحية يشبه القرآن الكريم، وكان أثر القرآن الكريم على الناس بالغ العمق، ولذلك كان أثر محمد صلى الله عليه وسلم على الإسلام أكثر وأعمق من الأثر الذي تركه عيسى عليه السلام على الديانة المسيحية.

ج- أن الرسول صلى الله عليه وسلم، كانرجلاً دنيويًّا، على خلاف عيسى عليه السلام؛ أي لا يعتزل الدنيا، فكان زوجًا وأبًا وكان يعمل في التجارة ويرعى الغنم وكان يحارب ويصاب في الحروب ويمرض .. ثم مات.

ولمـا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قوة جبارة، فيمكن أن يقال أيضًا إنه أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ([5]).

إذن، هذه هي الأسباب التي جعلت هذا الكاتب المنصف، مايكل هارت، يرى النبي صلى الله عليه وسلم على رأس قائمة الشخصيات الأكثر تأثيرًا في التاريخ، حتى على السيد المسيح عليه السلام، رغم أن عدد أتباعه يفوق بكثير أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم..

وهي أسباب تضع أيدينا على عوامل قوةٍ كامنة في رسالة الإسلام، وعلى ما ينبغي أن تكون عليه حياة المسلمين؛ حتى يحرزوا من التأثير مثل ما أحرز نبيهم صلى الله عليه وسلم.. وهم جديرون بهذا ما تمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم.


([1]) تفسير الطبري، 8/ 264.

([2]) الخالدون مائة أعظمهم محمد، مايكل هارت، ترجمة: أنيس منصور، المكتب المصري الحديث، ص: 13- 16. وما وضعته بين تنصيص (“”) هو المنقول من الكتاب.

([3]) عبقرية محمد، العقاد، ص: 8.

([4]) جاء في “ويكيبيديا” أن الاسم الأصلي للكتاب: (The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History)‏. وأن أنيس منصور ترجم العنوان ترجمة غير أمينة؛ فالعنوان بالإنجليزية لا يعني بتاتًا (الخالدون مائة وأعظمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ بل الترجمة الدقيقة: (المائة: ترتيب أكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ). وقد قال هارت في النسخة الإنجليزية: “عليَّ أن أؤكد أن هذه لائحة لأكثر الناس تأثيرًا في التاريخ، وليست لائحة للعظماء. مثلًا يُوجد مكان في لائحتي لرجل مؤثر بدرجة كبيرة وشرير وبدون قلب مثل ستالين، ولا يُوجد مكان للقديسة الأم كابريني”.

([5]) الخالدون مائة، ص: 17، 18، باختصار وتصرف يسير.