إذا اتفقنا على أن “النقد” المقصود هو هذا الجهد الفكري الذي يستطيع أن يميِّز المعاني بعضها من بعض، ويمحِّص الأفكار صحيحها من سقيمها، ويفرز المواقف صوابها من خطئها، بل أصوبها من صوابها، وأشدها خطأ من أخفِّها.. وإذا سلَّمنا بأن هذا النقد ضرورة من ضرورات الاجتهاد ولوازمه؛ إذ الاجتهاد يستبطن نقدًا للواقع ونقدًا للنص، محاولاً أن ينشئ تصورًا جديدًا لكليهما.. وإذا أدركنا أن النقد له شروط علمية وأخلاقية لا ينفك عنها، حتى يؤتي ثماره.. فإن السؤال التالي لهذه المسلَّمات والمقدمات، هو: لماذا تغيب العقلية النقدية؟ ولماذا مع شدة الحاجة إليها، لا نراها تُفصح عن نفسها، وإنما تتوارى خجلاً أو ضعفًا؟!

وقبل أن نفصِّل القول في هذا الأمر، نلفت النظر إلى أن وجود العقلية النقدية ليس ترفًا، وإنما يمثل ضرورة فكرية وعملية توجِبها عدةُ أمور، منها:

– أن العقلية النقدية هي المؤهَّلة والمؤهِّلة لممارسة الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد كما قلنا يستبطن نقدًا للنص وللواقع؛ وهما الأساسان اللذان تقوم عليهما عملية الاجتهاد.

– أن العقلية النقدية ضرورة لتصحيح الأفكار وتقويمها؛ لأن الإنسان إذا كان من طبعه الخطأ وعدم الكمال، فإن ما ينتجه من أفكار وتصورات وأعمال يتصف بهذا الوصف. ومن ثم، كانت الحاجة مستمرة للتصحيح والتقويم، أي للنقد؛ حتى تتكامل الرؤى، وتتصوَّب الأخطاء.

– أن تسارُعَ الحياة وامتلاءَها بالنوازل والمستجدات، يكشف عن الحاجة للنقد؛ إذ النقد مرتبط بوجه ما بالجديد والطارئ؛ لأنهما يستلزمان عينًا فاحصة، وتقليبًا على الوجوه كافة؛ أي للنقد.

– أن العقلية النقدية لازمة لاستكشاف مَلَكات الإنسان الإبداعية واستخراج طاقاته المخبوءة؛ لأن العقلية الساكنة الجامدة تتعامل مع الناس- على اختلافهم وتنوعهم- كأنهم كتلة واحدة صماء؛ دون أن تضع في اعتبارها أن كل إنسان بصمةٌ بذاتها، وأن الإنسان ممتلئ بالطاقة والإبداع اللذين يحتاجان لعقلية نقدية تنفض عنهما الغبار، وتكشف عن أصالة معدنهما وتَميزهما..

– أن العقلية النقدية شرط للتفاعل المثمر مع الكون من حولنا، سماءً وأرضًا وبيئة؛ فما أكثر ما سقط من تفاح قبل نيوتن! والفضاء كان متسعًا ومتاحًا للجميع قبل محاولة عباس بن فرناس! لكن سؤال التفاحة وعلاقته بالجاذبية انتظر نيوتن، واتساع الفضاء للطيران كأنما ضاق حتى جاء عباس! والسؤال والمحاولة يَعنيان النقد والتأمل والاستكشاف.. وهكذا، لا يمكن استثمار الكون بما فيه من قوانين ومسخَّرات إلا بعقلية نقدية؛ لا تركن للدعة، ولا تستسلم للمألوف، ولا تسلِّم بالموروث.

إذن، هذه أهم موجبات العقلية النقدية، وحيثيات ضرورتها، وأسباب أهميتها.. فلماذا إذن تغيب هذه العقلية النقدية، وهي على هذا المستوى من الوجوب والضرورة والأهمية!!

هنا، يمكن القول بأن ثمة أسبابًا تربوية وأخلاقية وعلمية لغياب العقلية النقدية، مع أسباب أخرى تتصل بالمناخ العام المشجِّع على إبداء الرأي، ومراجعة الأطروحات.. ويمكن الإشارة لأهم ذلك فيما يأتي:

أولاً في أساليبنا التربوية: فلا نضع النقد ضمن المقررات التربوية؛ بما يستلزمه من التنشئة على استقلال الرأي والاعتزاز بالنفس، والاقتناع قبل الانقياد، والشجاعة في إبداء الرأي، والمبادرة للنصح.. وغير ذلك من الصفات التربوية والأخلاقية التي ينبغي العمل على غرسها عند النشء في سنواتهم المبكرة.. ثم نتيح لهذه الصفات أن تتنفس مع الأيام بـ”الحرية” و”التجربة”، حتى تنضج وتختمر.

بل على العكس من ذلك! نرى النشء يتربى على أن الأدب في الصمت والتسليم بلا نقاش، وفي عدم الإكثار من التساؤلات، فضلاً عن أن حسن الخلق مربوط عند البعض بكثرة الصمت أو قلة الكلام، وليس بمحتوى الكلام! وكأن الإنسان “حيوان أخرس”، لا ناطق!

ثانيًا في مناهجنا الأخلاقية: فنخلط، للأسف، بين الجدال المذموم والسفسطة المرفوضة، وبين النقاش الذي يثري الحوار، والنقد الذي يكشف جوانب الضعف ويؤكد نقاط التميز.. فنحسب كل نقدٍ مراوغةً أو سفسطة أو جدالاً مذمومًا..

وربما خلط البعض بين “نقد الفكرة” و”نقد الشخص”؛ فلم يفصل بينهما ابتداءً فيضل مسعاه في التصحيح وإثراء القضية والموقف.. أو لم يفصل بينهما انتهاءً فيفوِّت على نفسه الانتفاع بما في النقد من صواب، ظانًّا أن النقد متوجه لشخصه هو، وليس منصبًّا على فكرته فحسب.

ولهذا علينا ألا نتجاوز نقد الفكرة إلى الشخص؛ لاسيما إن كان الشخص ممن سبق فضلهم، أو لم يُعرف عنهم تعمد الخطأ.

ثالثًا في مقرراتنا العلمية أو بيئاتنا العلمية: فلا نُنزِل النقد المنزلة اللائقة به؛ من حيث إنه أحد أركان العملية التعليمية المطلوبة لتكوين الشخصية العلمية المستقلة، التي تهضم تراث من سبقها ولا تقف عنده متحجِّرةً عليه! ومن ثم، تستطيع أن تمارس الاجتهاد بأريحية، متحرِّرةً من الوقوع في أَسْر السابقين، ومن فخ الانبهار بهم والتحجر على تراثهم.

أين المعلم الذي يطلب النصح من طلابه، ويعوِّدهم على نقد نصوصه وكتاباته، ويربيهم على نقد الأفكار، ويتيح لهم النقاش، بل يفرضه عليهم فرضًا! وأين المعلم الذي يتواضع أمام طلابه ولا يزعم أنه أحاط بكل شيء علمًا، وبالتالي لا يستنكف أن يرده أحدهم إلى صواب، أو يلفت نظره لِمَا غاب عنه!

للأسف، ما أكثر ما يضيق الأساتذة بمناقشات طلابهم واستفساراتهم، وقد يفرضون عليهم موضوعات معينة في مرحلة البحث العلمي، أو لا يسمحون لهم بإبداء رأيهم الشخصي في سير البحث وكتابته؛ بل ينظرون للطالب نظرة ازدراء إذا أكثر من السؤال؛ ولسان حالهم ومقالهم: ما ترك الأول للآخر شيئًا..!

ولله درّ الجاحظ إذ يقول: “إذا سمعتَ الرجلَ يقول: ما ترك الأولُ للآخِر شيئًا، فاعلمْ أنه ما يريد أن يُفلِح”([1]).

وهنا، نشير إلى أن بعض الأخلاق والمأثورات التي شاعت من التراث الصوفي، قد أسهمت في عدم تكوين العقلية النقدية؛ فعندهم يجب أن تكون بين يدي الشيخ كما يكون الميت بين يدي مغسِّله! ومن اعترض انطرد، ومن قال: لا، لم يفلح!!

فأي عقلية نقدية تتشكل في هذه الأجواء!

رابعًا المناخ العام: فهناك مناخ يشجِّع على إبداء الرأي بل يطلبه، ويقبل النقد بل يرحِّب به؛ مما يجعل القضية المطروحة موضعًا للنقاش الجاد، ومحلاً لتكامل الرؤى.. بينما هناك مناخ لا يشجِّع على النقد ولا يرحِّب به، بل يضع أمامه العراقيل، ويعاقب على إتيانه؛ ولهذا لا تنضج الأفكار، ولا تتقوَّم الاتجاهات، وربما يفضِّل البعض المضيَّ في الطريق الخطأ على أن يبدي رأيه الذي قد يجرّ عليه المتاعب.

الأمر ذو شجون، والقضية متعددة الجوانب.. وعلينا أن نعيد النظر في مناهجنا التربوية والتعليمية، وفي تصورنا للأخلاق والسلوك، وفي مناخاتنا العامة.. ونضبط ذلك كله على توجيهات القرآن الكريم والسنة، فهما الأساس والمنبع..

وفي هذا الصدد، يكفي أن نشير إلى قوله تعالى {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} (البقرة: 111)، وقوله أيضًا: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68)([2])؛ لندرك اعتناء القرآن الكريم بتحرير العقل من القيود، وبناء الفكر على الدليل والبرهان؛ وهذا هو السبيل لتكوين العقلية النقدية، التي هي من لوازم الاجتهاد والتجديد، ومن شروط النهوض والشهود الحضاري..


([1]) معجم الأدباء، ياقوت الحموي، 5/ 2103، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1993م، تحقيق: إحسان عباس.

([2]) قال القشيري: “يعني أنهم لو أنعموا النظر، وسلطوا على أحوالهم صائب الفكر؛ لاستبصروا في الحال، ولانتفى عن قلوبهم الاستعجام والإشكال؛ ولكنهم استوطنوا مركب الكسل، وعرّجوا في أوطان التغافل؛ فتعودوا الجهل، وأيسوا من الاستبصار”. تفسير القشيري، 2/ 581، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط3، تحقيق: إبراهيم البسيوني.