يلاحظ كل متابع جيد أو متخصص، أو صاحب حرقة على مستقبل هذه الأمة في  تلك الفترة العصيبة من التاريخ أن المحاولات المباركة من السادة العلماء والدعاة في التكوين العلمي للعلماء والدعاة أنها – حتى الآن- لم تصل إلى الدرجة المرجوة، ولم تحقق في مسيرتها الغايات الموضوعة لها، ومؤشر ذلك هو قياس الأثر، فليس هناك تأثير ملحوظ لتلك المؤسسات رغم كثرتها ، ورغم الوفرة المالية – أحيانا- لتلك المؤسسات، مع أن كثيرا من المؤسسات تشكو الدعم المالي الذي يوفر لها احتياجاتها لتحقق غاياتها ومقاصدها، على أن هناك من المؤسسات ما توافرت لها كل الدعم، بما في ذلك الرؤية الإستراتيجية الواضحة – وهي التي غالبا ما تكون غائبة عن تلك المؤسسات- وبالرغم من ذلك، فالمخرجات التعليمية ضعيفة ضئيلة، ويبدو أن هناك بونا شاسعا بين التصورات والخطط التشغيلية الموضوعة وبين التنفيذ على أرض الواقع، وهذا الضعف الذي يشهده التكوين العلمي غالب على المؤسسات الحكومية بأجهزتها ووفرة الدعم المادي واللوجستي والاستقرار، وهو ينطبق أيضا على المؤسسات العلمية الخاصة، أو المؤسسات العلمية الأهلية، التي ترى أن الدراسة الأكاديمية لا يمكن لها أن تحقق الازدهار العلمي الذي شهدته الأمة الإسلامية منذ فجر دعوة الإسلام إلى ما يقارب قرنين من الزمان، وإن لم يخل قرن من وجود علماء ثقات ، كانوا يمثلون الامتداد الحضاري والتاريخي لمسيرة العلماء العطرة، ودورهم البارز في نهضة تلك الأمة، وأنهم كانوا هم المرشدون والداعمون للأمة كلها؛ حكاما ومحكومين.

تساؤلات:

وإن هذا الخلل والقصور في التكوين العلمي ليوقع المتخصصين – فضلا عن غيرهم- في حيرة من الأمر:

 – لماذا لم تنجح تجارب كبار العلماء إلا في شخوصهم؟

– ما أسباب القصور في التكوين العلمي للمؤسسات التعليمية في بلاد المسلمين؟

– ما سبب غياب مشروع عالمي لتكوين العلماء؟

– ولماذا أخفقت كثير من التجارب على أرض الواقع؟

– وما السبيل إلى تحقيق النجاح في تلك المؤسسات والتجارب؟

التشخيص أول العلاج:

إن أول طريقة للعلاج هو التشخيص الصحيح المجرد عن العواطف والهوى والمصالح، المتجرد لله ولرسوله وللأمة، المتسم بأدوات التحليل والتقييم، المدرك للأبعاد الكلية قبل الجزئية، المنطلق من المقاصد قبل الوسائل، الواعي للمآلات، الممتلك لجودة الأدوات والسياسات والإجراءات، الواعي بماهية إدارة المشاريع وأدوات نجاحها وتقييمها وقياس أثرها.

إدارة العلماء:

إن نجاح المؤسسات التعليمية الشرعية يجب أن ينطق من إدراك كونها مؤسسات، ينطلق نجاحها من ثقافة المؤسسة، فالأمر ليس مجرد منهج علمي يدرس، ولا وجود مشايخ يتقنون مادتهم فحسب، وإن كانت كلها أدوات لا يستغنى عنها، لكن نجاح المؤسسات له مقاييسه الإدارية والفنية التي يجب أن يدرب عليها من يدير المؤسسة، وليس بلازم أن يكون العلماء والمشايخ هم من يديرون تلك المؤسسات، وينبغي ألا يفهم أن وجود مدير لتلك المؤسسة من غير المشايخ والعلماء هو إنقاص من مكانتهم العلمية.

حكى لي صديق درس في إحدى الدول الغربية أن أحد المهندسين كان مهيأ أن يكون مدير المؤسسة التي يعمل بها؛ لأنه أعلاهم شهادة جامعية، فهو قد درس الهندسة، فاستدعاه رئيس مجلس الإدارة، وقال له: بعد فراغ منصب المدير تفكر أنك أجدر الناس بإدارة المؤسسة أليس كذلك؟ فقال له: بلى، فأنا مهندس وحاصل على تلك الشهادة التي تؤهلني للإدارة، وليس في المؤسسة أحد أعلى شهادة تعليم مني. فقال له رئيس مجلس الإدارة: أنت مهندس تجيد التعامل مع الآلات، ولكن الإدارة فن التعامل مع البشر، وهذا لم تدرسه، بل ربما كان التعامل مع الآلات يضر من يتعامل مع البشر، فلابد أن تتحصل على ماجستير في العلوم الإنسانية وتدرس كيفية التعامل مع الناس وتتحصل على دورات مهارية فيه، ساعتها تكون مؤهلا لأن تكون مديرا.

مراعاة تغير البيئات والأحوال:

كما أن على علمائنا ومشايخنا أن يفرقوا بين التدريس القديم والتدريس اليوم، فالتدريس القديم كان يقوم على دراسة المتون والشروح والحواشي بلا حساب زمن، مع تفرغ طلاب العلم آنذاك للمدارسة، وهذه طريقة مازالت موجودة، لكنها لم تعد تناسب غالب طلاب العلم اليوم، ذاك عهد قد مضى بصورته وهيئته، لكنه باق بمنهجه.

أما التدريس اليوم، فقد أضحى أكثر تعقيدا؛ لأن الزمن غير الزمن، وطلاب العلم اليوم ليسوا كطلاب العلم أمس، والبيئة التعليمية مختلفة تماما، ولهذا فأول التصحيح هو التفريق بين المنهج والوسائل، فمنهج العلماء في التعليم، وكيفية الاستفادة من ذلك المنهج الذي جرب مئات السنين، وقد أثبت جدارته وكفاءته، ولا يمكن أن يمحى بجرة قلم، فلازال منهج العلماء في السلف والخلف يثبت جدارته وكفاءته، ولكن وسائل الأمس لم تعد نافعة اليوم، فلابد من استعمال وسائل التعليم الحديثة، والتدرب على مناهج التدريس والطرق الحديثة، وكيفية المواءمة بينها وبين العلوم الشرعية، لما للعلوم الشرعية من خصوصيات ليست موجودة في كثير من العلوم، إن اشتركت معها في بعض الخصائص، وتلك معادلة مازالت من أصعب المعادلات في تعليم العلوم الشرعية.

فغالب التجارب خلاصته، إما أن يقدم محتوى ضعيف بأدوات مبهرة، وإما أن يقدم بأدواته القديمة التي لم تعد صالحة اليوم، وكلاهما لا يؤدي إلى المطلوب ولا يحقق المقصود.

فنون الإدارة والتخطيط:

الأمر ذات الأهمية في تعليم العلوم الشرعية هو إدارة تلك المؤسسات بناء على التخطيط الإستراتيجي وإدارة الأعمال، لكن دون استغراق فيما يكتبه المتخصصون في التخطيط الإستراتيجي وهو أمر بعيد جدا عن العلماء والمدرسين للعلوم الشرعية، فضلا عن كثرة التفريعات والتنظير الإنشائي عند كتابة الخطة الإستراتيجية وكأنها ألغاز أو متن فقهي لا يفهم، يحتاج إلى من يفك شفرته.

بل إننا بحاجة إلى نموذج يميل إلى الناحية العملية أكثر في مجال التخطيط، بحيث يكون قابلا للتنفيذ، مع تدريب القائمين على إدارة المؤسسات التعليمية على تحقيق التخطيط الإستراتيجي، وربط الرؤية والرسالة والقيم الإستراتيجية والأهداف والمبادرات والمؤشرات برباط وثيق، يوصل كل واحد للآخر، في تلاحم إداري يحقق المقصود، ويوصل للمطلوب.

التدريب:

ومن الأمور ذات الأهمية في تدريس العلوم الشرعية والعربية هو التدريس بناء على المهارات، وهي النتيجة المرجوة، فلابد من إدراك المعلم ومعه الطالب من الأهداف الكلية للعلم الذي يدرس، وأن يقسم كل علم إلى وحدات تعليمية ممزوجة بالتدريب، وأن يكون له وحدة أهداف تفصيلية منبثقة عن الأهداف الكلية، بحيث يتم الوصول إلى تلك الأهداف.

على أن إدخال مهارات التدريب وتعليم العلوم الشرعية على هيئة دورات تدريبية شبيهة بدورات التنمية البشرية لا يجدي نفعا مع طبيعة العلوم الشرعية، لكنه قد يكون تمهيدا لما بعده، فالدورات تعطي ثقافة عامة ومفاتيح لفهم طبيعة تلك العلوم.

مهارات العلوم:

كما أن صياغة المناهج على شكل مهارات، وهي التي تعبر عن الأهداف غاية في الصعوبة، لكنه أقصر طريق لإيجاد الأثر المرجو، فصياغة كل علم على هيئة مهارات يكتسبها الطالب، بحيث تصاغ المادة العلمية لتكون خادمة لتلك المهارات، وقد يتطلب تكرار بعض المعلومات في المادة؛ لأن المادة قد تكون خادمة لأكثر من مهارة، وهذا يعني إعادة النظر إلى صياغة المناهج؛ بناء على المهارات وليس بناء على التقسيم الموضوعي الذي يقصد به حصول المعرفة، وإن تلك الطريقة ستجعل الطالب يتمكن من العلم بطرق أكثر، وفي وقت أقل.

التعلم الذاتي:

كما يجب أن يصاحب تدرس العلوم الشرعية أنشطة مصاحبة تحقق جزءا من استراتيجية (التعلم الذاتي)، فالطريقة التقليدية تجعل الطالب خاملا، مقتصرا على مجرد سماع الشيخ أو الأستاذ، وبدون تطبيق إستراتيجية التعلم الذاتي لن نجد إلا تحصيل معرفة يضيع غالبها يوم انتهاء الامتحان أو بعد بضعة أيام.

التدريب العملي:

كما يجب أن يصاحب تدريس العلوم الشرعية تدريب طلاب العلم على وظائف وواجبات العالم والداعية، وأن على الطلاب أن يتحركوا في مجتمعهم، وأن يقوموا بالتدرب على أدوارهم المستقبلية، فيدرب الطلاب على إلقاء الدروس والمواعظ في المساجد، وأن يشتركوا في المحافل العلمية من الندوات والمؤتمرات، وأن يسمح لهم بكتابة المقالات والبحوث، كل ذلك بإشراف المؤسسة التعليمية، ليتنقلوا من التعلم إلى التدرب، ومن التدرب إلى الممارسة، ومن الممارسة إلى الإتقان، ومن الإتقان إلى التلقين وتعليم الغير، وتلك سنة التوريث التي تميزت بها الأمة في منهجية العلوم الشرعية. ومن الحكمة أن يصاغ دليل إرشاد لإدارة مؤسسات التعليم الشرعي، يجتمع عليه نخبة من العلماء والمتخصصين في الإدارة والتخطيط بحيث يكون دليلا لكل من أراد رفع كفاءة مؤسسات التعليم الشرعي، أو حتى أولئك الذين يريدون إنشاء مؤسسات جديدة.