إن قيام الليل هو دأب الصالحين ، وشرف المؤمنين ، وتجارة المتقين ، وعمل المفلحين ، ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم ، ويقومون بين يدي خالقهم ، ويتوجهون إليه ، فيستغفرونه ويتوبون إليه ، ويسألونه من فضله ، ويتضرعون له ، ويشكون إليه أحوالهم ، ويعكفون على مناجاته ، ويرغبون إلى عظيم عطاياه وهباته .

ولقيام الليل فضائل كثيرة ، وثمرات جليلة ، تعود على صاحبها في الدنيا والآخرة .

أما ما يعود على المسلم من قيامه في الدُّنْيا :

1- أن قيامُ الليل من القُربات العظيمة التي يتقرّب بها العباد إلى ربهم ، وقد وصفهم الله بذلك في آيات كثيرة ، كما في قوله سبحانه { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ }  [ السجدة :16] .

قال مجاهد والحسن : يعني قيام الليل .

وقال عبد الحق الأشبيلي : أي تنبو جنوبهم عن الفرش ، فلا تستقر عليها ، ولا تثبت فيها ، لخوف الوعيد، ورجاء الموعود .

وذكر الله عز وجل عباده المتهجدين بالليل فقال { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات :18،17] .

قال الحسن : كابدوا الليل ، ومدّوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار.

وقال تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }[الزمر:9] .

أي : هل يستوي من هذه صفته ، مع من نام ليله وضيّع نفسه ، غير عالم بوعد ربه ولا بوعيده ؟! ولا مهتم له ؟

2- أن قيامُ الليل ينهى صاحبَه عن ارتكاب الذُّنوب والمعاصي ، وفعل المنكرات ، ودليلُ ذلك قوله تعالى : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [العنكبوت: 45] .

وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إنَّ فلانًا يُصلِّي بالليل ، فإذا أصبحَ سرق ؟! قال : ” سَيَنْهاه ما تقول ” . رواه أحمدُ وابن حبان وصحَّحه الألباني .

والصلاةُ مطلقًا تنهى عن الفحشاء ؛ لكن قيامَ اللَّيْل له ميزة خاصة في نهي صاحبه عن المعاصي ، كما في الحديث قال صلى الله عليه وسلم : “عليكم بقيام الليل ، فإنه دأبُ الصالحين قبلكم ، وقربةٌ إلى الله تعالى ، ومنهاةٌ عن الإثم … ” أخرجه أحمد والتِّرمذيُّ والبيهقيُّ ، وقال العراقي : إسنادُه حسنٌ ، وحسَّنه الألبانيُّ .

3 – أنه من أسباب تكفير السيئات ، كما في الحديث السابق ، قال صلى الله عليه وسلم : ” وتكفيرٌ للسيئات .. ” .

والصلاة عموما من أسباب تكفير السيئات ، كما قال سبحانه و تعالى { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } (هود : 114 ).

فالصلوات المفروضات ، وما ألحق بها من التطوعات والنوافل ، من أكبر الحسنات التي تذهب بالسيئات وتمحوها ، وهي الصغائر ، كما دلت عليه الأدلة ، أما الكبائر فلا تكفر إلا مع التوبة والندم والاستغفار .

وفي الحديث : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنتُ عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال : يا رسول الله ، إني أصبت حداً فأقمه علي ، قال : ولم يسأله عنه . قال : وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قام إليه الرجل فقال : يا رسول الله ، إني أصبت حداً فأقم فيّ كتاب الله . قال : ” أليس قد صليت معنا ؟ ” قال : نعم ، قال : ” فإنّ الله غفر لك ذنبك ، أو قال : حدك ” رواه البخاري (6823 ) .

4- أنَّه يطرد الداءَ من الجسد ، وأولُ داء يطرده داءُ العجز والكسل ؛ وغيرها من أمراض القلوب والأبدان ، قال صلى الله عليه وسلم : “عليكم بقيام الليل .. إلى قوله : ومطردةٌ للداء عن الجسد ” الحديث .

5- في قيام اللَّيل يَحْصُلُ العبدُ على كلِّ خير لدنياه وأُخراه ؛ فإنَّ في الليل ساعةً ، لا يوافقها عبدٌ يسأل الله تعالى خيرًا من أمر دنياه وآخرته ، إلَّا أعطاه إيَّاه ؛ فعن جابر رضي الله عنه : أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إنَّ من اللَّيل ساعة ، لا يوافقها عبدٌ مسلم ، يسأل الله خيرًا إلا أعطاه إياه ، وذلك كل ليلة ” أخرجه مسلم .

وإذا كان قيامه في الثلث الأخير من الليل ، كان أيضا في وقت استجابة الدعاء ، كما في  الحديث الصحيح ، الذي رواه الشيخان وغيرهما : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ علَيه وسلَّم قال : ” ينزلُ ربنا تبارك وتعالى كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا ، حين يبقى ثلث الليل الآخر ، يقولُ : مَنْ يدعُوني فأستجيب له ، مَنْ يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له ” ، هذا لفظ البخاري في باب الدعاء والصلاة من آخر الليل .

وفيه الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل ، وحصول الإجابة فيه .

فأصحابُ القيام مجابو الدعوة ؛ إذا استنصروا الله نصرهم ، وإذا استعاذوه أعاذهم ؛ وإذا سألوه أعطاهم ، وإذا استغفروه غفر لهم .

فلو سألتَ الله في ساعة الاستجابة ، التوفيقَ في أمورك كلِّها ، وقمت بين يدي ربِّك مستغفراً تائبا ، سائلا إياه أن يوفِّقَك لما يحبه ويرضاه ، لما ندمتَ أبدًا ؛ فإنَّ الله تعالى مالكَ الدُّنيا والآخرة ، المعطي الباسط ، وهو وليُّك وكافيك وحسبُك ؛ فكيف تحزنُ أو كيف تقلق وإيَّاه دعوتَ ؟ وعليه توكلتَ وأنبت ؟! فهو مُجري السَّحاب ، ومذلِّل الصِّعاب ، ومدبِّر الكون ، ومقسِّم الأرزاق ، سبحانه من إله عظيم .

وأيضا : قال صَلَّى اللَّهُ علَيه وسلَّم : ” أقربُ ما يكون الربُ من العبد ، في جوف الليل الآخر ، فإنْ استطعت أنْ تكون ممن يذكر اللهَ في تلك الساعة ، فكن ” رواه الترمذي وابن خزيمة وصححه .

6- صاحب قيام الليل يصبح طيبَ النفس نشيطًا ، يُعان على عمله سائر يومه ؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ” يَعقدُ الشيطانُ على قَافية رأسِ أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب مكان كل عقدة : عليك ليلٌ طويل فارقد ، فإنْ استيقظ فذكر الله انحلتْ عقدة ، فإن توضأ انحلتْ عقدة ، فإن صلَّى انحلت عقدة ، فأصبح نشيطًا طيبَ النَّفْس ، وإلَّا أصبح خبيثَ النفس كسلان ” متفق عليه .

وصدق الصادقُ المصدوقُ ، فترى أصحابَ القيام لا يبدو عليهم الكسلُ ولا الخمول ؛ بل هم ذو نشاط وهمة وعمل ؛ بينما ترى أصحابَ النوم إلى الصباح ، لا يكادون يمدُّون أيديهم أو يثنون أرجلهم ، لفتورهم وكسلهم ، وما ذاك النشاط لصاحب قيام الليل والصلاة ، إلا عونٌ من الله تعالى لمناجاته وتقرُّبه إليه ، حتى أصبح بصره وسمعه ويده ورجله .

7- ومن فضل القيام في الليل للصلاة والذكر ، ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” مَنْ تعارَّ من الليل فقال : لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له ، له الملكُ وله الحمدُ ، وهو  على كل شيء قدير، الحمدُ لله ، وسبحان الله ، ولا إله إلا الله ، والله ُ أكبرُ ، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله , ثم قال : اللهم اغفر لي , أو دعا ، اسْتجيبَ له ، فإنّ توضَّأ وصلى ، قُبلت صلاته ” رواه البخاريُّ .

فأصحابُ القيام ؛ أولى بهذا الفضل الوارد بهذا الحديث ، فهم من يقول هذا الذكر وغيره من الأذكار .

8- القيامُ بالليل بالقرآن ، معينٌ على تثبيت القرآن في الصدر ؛ وعدم نسيانه ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ” وإذا قام صاحبُ القرآن ، فقرأه باللَّيل والنهار ذكَره ، وإذا لم يقُم به نَسيه ” رواه مسلم.

ويقول الله تعالى : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ الليْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا } (المزمل : 5-6) .

عن مجاهد : ( أشد وطئًا ) قال : مواطأة للقول ، وأفرغ للقلب .

قال الحسنُ : أثبتُ في القراءة ، وأقوى على القراءة . مختصر قيام الليل للمروزي .