في مقالٍ سابق: “علي الوردي يتساءل: هل جرى ابن خلدون على المنطق الأرسطي؟“، بيّنا ما ذهب إليه عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي، من أن ابن خلدون لم يكن مسايرًا للمنطق القديم، بل خرج عنه؛ لأنه كان منطقًا مكبِّلاً للعلم والمعرفة؛ سواء في “صوريته” أو في “استنباطيته”.

وتم توضيح أن ابن خلدون نقل الفكر الإنساني، والفكر الاجتماعي خاصة، نقلة نوعية؛ حين ركَّز على الاهتمام بمادة الشيء، أي طبيعته، وليس على صورته كما كان يفعل القدماء؛ فانتقل الفكر من “المثال” إلى “الواقع”.. من “التجريد والصورة” إلى “الطبيعة والمواد”.. مما “يجب” إلى ما هو “كائن”.

وفي هذا المقال نبيّن تصوُّرَ الدكتور الوردي لمحور “نظرية” ابن خلدون، وما إذا كانت تلك النظرية موافقة لـ”مبادئ المنطق الأرسطي” أم مخالفة لها.

محور النظرية الخلدونية

اختلف المفكرون والباحثون إلى اتجاهين حول المحور الذي أدار عليه ابن خلدون نظريته في العمران البشري. وقد ذكر د. الوردي هذا الاختلاف، وذهب مذهبًا مغايرًا.

الاتجاه الأول: رأى أن هذا المحور يتمثل في مفهوم (العصبية)، وأبرز ممثليه ساطع الحصري. يقول الوردي: يرى الأستاذ ساطع الحصري أن فكرة (العصبية) هي المحور الذي يدور حوله معظم المباحث الاجتماعية في مقدمة ابن خلدون. وهذه الفكرة في نظر الحصري تؤلف أنظومة (Syetsm) تامة التكوين في الاجتماع بوجه عام، وفي الاجتماع السياسي بوجه خاص. ولا يستطيع القارئ، كما يقول الحصري، أن يحصل على فكرة تامة عن العصبية بقراءة فصل واحد أو بضعة فصول من المقدمة؛ ذلك لأن ابن خلدون يبني نظريته فيها بالتدريج قسمًا بعد قسم خلال فصول المقدمة؛ شأن جميع المفكرين الذين يضعون النظريات المفصلة ويؤسسون الأنظومات الكبيرة. وإلى رأي الحصري هذا، يميل كثير من الباحثين من أجانب وعرب (1).

الاتجاه الثاني فقد تصور هذا المحور متمثلاً في موضوع (الدولة)؛ يقول الوردي: للدكتور طه حسين رأي آخر في محور النظرية الخلدونية؛ فهو يذهب إلى أن تلك النظرية تدور حول موضوع الدولة (2).

ثم يخالف الوردي هذين الاتجاهين، ويقرر اتجاهًا ثالثًا يتخلص في أن نظرية ابن خلدون تدور موضوع هو أوسع نطاقًا وأكثر شمولاً من موضوع العصبية أو موضوع الدولة. إنها حسب رأي الوردي تدور حول (البداوة والحضارة) وما يقع بينهما من صراع، وأنه يمكن القول إن لها جانبين: أحدهما سكوني والآخر حركي:

•الجانب السكوني: منها يتمثل في تعيين خصائص البداوة والحضارة، وكيف تظهر هذه الخصائص في كل منهما على حدة.

•الجانب الحركي: فيتمثل في دراسة التفاعل والتصارع بين البداوة والحضارة وما ينتج عن ذلك من ظواهر اجتماعية مختلفة(3).

لكن الوردي في خاتمة كتابه (ابن خلدون والمنطق الأرسطي)، يذهب إلى رأي مخالف لرأي هو نفسه؛ محاولاً فيه أن يجمع بين الاتجاهين السابقين اللذين يمثلهما ساطع الحصري وطه حسين؛ فيقول في الفصل الأخير من كتابه: ولي أن أقول الآن في ضوء هذا الفصل إن كِلَا الموضوعين، العصبية والدولة، له أهميته في النظرية الخلدونية. ولعل من الجائز أن أقول بأن موضوع (العصبية) كان محور القيم البدوية في تلك النظرية، بينما كان موضوع (الدولة) محور القيم الحضرية فيها (4).

وبهذا جمع الوردي رأيه السابق، مع الرأيين الآخرين، في معادلة واحدة تمثل محور نظرية ابن خلدون.. وإنْ كانت القسمة الأساسية في المعادلة الجديدة لم تخرج أيضًا عن (البداوة والحضارة).

النظرية والمنطق الأرسطي

وبعد أن خلص الوردي من تحديد محور نظرية ابن خلدون، تساءل: هل كانت تلك النظرية موافق لمبادئ المنطق الأرسط أم مخالفة لها؟

وللإجابة على ذلك، ذكر الوردي أن من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها بناء المنطق القديم، (مبدأ الماهية): وهو يقول في مجمله بأن للشيء ماهية ثابتة لا يمكن أن تتغير أو تتناقض مع نفسها. ويتضمن هذا المبدأ ثلاثة قوانين هي التي تُعرف عند المناطقة باسم (قوانين الفكر)؛ وهي: 1) قانون الذاتية 2) قانون عدم التناقض 3) قانون الوسط المرفوع([5]).

ثم أخذ الوردي يشرح المقصود بكل قانون من هذه القوانين الثلاثة، مبينًا مدى صلة النظرية الخلدونية به؛ ومن ثم يخلص إلى بيان علاقة منطق بابن خلدون بالمنطق الصوري القديم.

1) قانون الذاتية: ويُقصد به أن الأشياء في حقيقتها لا تتغير بمرور الزمن؛ إذ هي تملك خصائص ومميزات تبقى ثابتة خلال التغير.

وحين نأتي إلى نظرية ابن خلدون، كما يقول الوردي، نجد فيها نقضًا لقانون الذاتية هذا. ويتضح ذلك بوجه خاص في الجانب الحركي من النظرية؛ فقد رأينا ابن خلدون هنا يؤكد أن المجتمع البشري في تغير مستمر جيلاً بعد جيل، وليس هناك حد يقف فيه هذا التغير(6) .

2) قانون عدم التناقض: وهو يقرر أن الشيء إذا كان حسنًا فإنه لا يمكن أن يكون قبيحًا؛ فالنقيضان لا يجتمعان كما يقول أصحاب المنطق القديم. والشيء الحسن يجب أن يكون حسنًا في جميع صفاته، والقبيح كذلك يجب أن يكون قبيحًا في جميع صفاته.

أما ابن خلدون فقد أشار في الجانب السكوني من نظريته إلى ما يخالف هذا القانون؛ فهو عندما درس البداوة ذكر لها صفات متناقضة تجمع الحسن والقبح معًا؛ فالبدو صالحون وطالحون في الوقت ذاته، وذلك تبعًا للجهة التي ننظر منها إليهم. فإذا نظرنا إليهم من جهة معينة وجدناهم من أكثر الناس توحشًا وميلاً للنهب والتخريب، ومن أشدهم بعدًا عن العلم والفن والصناعة. ولكننا حين ننظر إليهم من جهة أخرى، نرى فيهم صفات الشجاعة ومتانة الخلق وسلامة الفطرة والابتعاد عن الترف والابتذال والتسفل.

وكذلك يكون الحضر في نظر ابن خلدون؛ ففيهم تتمثل معالم الصناعة والعلم والفن من جهة، وتسودهم أخلاق الترف والجبن والمكر من الجهة الأخرى (7).

3) قانون الوسط المرفوع: وينص على أنْ ليس هناك وسط بين النقيضين؛ فمن الأشياء ما يكون حسنًا، ومنها ما يكون قبيحًا، ولا مجال بينهما لشيء ثالث ليس بالحسن ولا بالقبيح. ولهذا اعتاد المناطقة القدماء أن يصنِّفوا الأشياء في ضوء هذا القانون إلى صنفين متضادين لا ثالث لهما ولا وسط بينهما.

وقد وجّه العلم الحديث اعتراضًا ضد قانون الوسط المرفوع؛ يقوم على أن التصنيف الثنائي الذي يقوم عليه هذا القانون ليس له وجود واقعي خارج الذهن، إنما هو من صنع عقولنا ونحن نلجأ إليه في كثير من الأحيان في سبيل بعض الأغراض العملية.

فنحن مثلاً نصنِّف الأشياء إلى حارة وباردة؛ بينما الأشياء في الواقع لا تخضع لهذا التصنيف. إنها في الحقيقة تتفاوت على درجات متتالية، كل درجة أقل مما يليها بمقدار ضئيل جدًّا، وليس هناك حد طبيعي يفصل بين الأشياء من هذه الناحية.

وقد يظن البعض أن درجة الصفر المئوي هي الحد الفاصل بين الحرارة والبرودة؛ ولكن هذه الدرجة في الواقع ليست سوى حد اعتباري اتخذه العلماء لأنه يعين الدرجة التي يتجمد فيها الماء النقي، وهي فيما سوى ذلك ليست غير درجة اعتيادية لا تختلف عن غيرها من درجات الحرارة الأخرى.

وينتقل د. الوردي إلى علاقة ذلك بمخالفة ابن خلدون للمنطق القديم، فيقول: يخيَّل لي أن ابن خلدون فطن إلى العيب الكامن في التصنيف الثنائي من الناحية الواقعية؛ فقد صنَّف الناسَ إلى صنفين اثنين هما البدو والحضر، ولكنه عندما شرح أوضاعهم أشار إلى أنهم يقعون فيها على درجات متفاوتة تبعًا لمقدار ظهور خصائص البداوة أو الحضارة فيهم شدةً وضعفًا.

فالبدو عند ابن خلدون ثلاث درجات، بالنسبة إلى توغلهم في حياة الصحراء وبُعدهم عن مستلزمات الحضارة؛ ففي الدرجة القصوى المتطرفة في بداوتها وضع ابنُ خلدون (البدوَ) الذين يعتمدون في معاشهم على الإبل.. يليهم في ذلك أصحاب الشاء والبقر.. ويلي هؤلاء أخيرًا الممتهنون للزراعة. وكذلك وضع (الحضرَ) أيضًا على درجات متفاوت، لكنه لم يعيِّن فيهم عدد الدرجات كما فعل مع البدو (8).

إذن، خالف ابن خلدون قانون الوسط المرفوع؛ وذلك بما أوضحه من درجات متفاوتة بين التقسيم الرئيس الذي قسَّم الناسَ إليه، وهو تقسيم البدو والحضر.. ولم يعد الأمر تقسيمًا ثنائيًّا لا وسط بينهما، كما يقول هذا القانون.

خلاصة

بهذا البيان للقوانين الثلاثة التي يقوم عليه المبدأ المهم من مبادئ المنطق الأرسطي، مبدأ الماهية.. وبتوضيح كيف أنّ ما انتهى إليه ابن خلدون في منطقه، جاء مخالفًا لهذه القوانين.. يتضح لنا أن ابن خلدون لم يَجْرِ في نظريته- سواء اتفقنا مع محورها كما يقرر علي الوردي، أو ساطع الحصري، أو طه حسين- على المنطق الأرسطي القديم، وإنما كان له منطق خاص؛ يتفاعل مع الواقع والطبائع بأكثر مما ينطلق من التجريد والصور.

ولهذا استطاع ابن خلدون أن ينقل الفلسفة من مجالها الصوري والميتافيزيقي، إلى الحركة التاريخية وإلى واقع المجتمعات الإنسانية وإلى قوانين العمران البشري.. ولم يعد التاريخ قصصًا تُروَى تُزَّين بها المجالس، بل صار مجالاً للدرس والفحص والتأمل والاعتبار؛ لأن “الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء”!


([1]) منطق ابن خلدون- في ضوء حضارته وشخصيته، د. علي الوردي، ص: 75، 76. (باختصار وتصرف يسير، وهكذا في النقول التالية).

([2]) المصدر نفسه، ص: 76.

([3]) المصدر نفسه، ص: 76.

([4]) المصدر نفسه، ص: 295.

([5]) المصدر نفسه، ص: 40.

([6]) المصدر نفسه، ص: 80، 81. ولهذا يقرر ابن خلدون أنه “إذا تبدّلت الأحوال جملةً؛ فكأنما تبدّل الخَلقُ من أصله، وتحوّل العالم بأسره وكأنه خَلقٌ جديد ونشأةٌ مستأنَفة وعالَم مُحدَث”. انظر المقدمة، 1/ 43.

([7]) المصدر نفسه، ص: 78، 79.

([8]) المصدر نفسه، ص: 84- 86.