هذه محاورة فكرية ثرية بين الدكتورين إبراهيم بن علي الوزير وحسين مؤنس، امتدت طولاً وعمقًا؛ بحيث غطَّت مسيرة الحضارة الإسلامية في معظم مرحلها، وتناولت مجالاتِها وموضوعاتها الرئيسة، خاصة ما يتصل بالنهوض والتراجع الحضاريين.. على نحو يستحق أن نقف مع أبرز نقاطها، لعل هذا يدفع للقراءة التفصيلية لهذه المحاورة، ويُغني فكرنا ويرشِّد خطواتنا.

تدور المحاورة بين عَلَمين من أعلام الثقافة الإسلامية المعاصرة([1])؛ أحدهما الدكتور حسين مؤنس (1911- 1996م)؛ المؤرخ والصحفي والأديب المصري، صاحب العديد من المؤلفات؛ أبرزها: أطلس تاريخ الإسلام، الحضارة، المساجد، تاريخ المغرب وحضارته، عالم الإسلام.. أما إبراهيم بن علي الوزير (1932- 2014م) فمفكر إسلامي يمني، أغنى مكتبتنا المعاصرة بأكثر من ثلاثين مؤلَّفًا ذات طابع فلسفي، أعادت للإسلام بُعده الإنساني، وأضاءت مفهومه المتسع للحرية اتساع الكون؛ من أهمها: على مشارف القرن الخامس عشر الهجري، لكي لا نمضي في الظلام، الطائفية آخر ورقة للعالين في الأرض، الإمام الشافعي– داعية ثورة ومؤسس علم وإمام مذهب، دعوة للحوار والنقاش- المنهج للحياة، رؤية اجتهادية إسلامية.

وكان المفكران إبراهيم بن علي الوزير وحسين مؤنس قد أجريا هذا الحوار في منزل د. مؤنس بالقاهرة، في عام 1986م، على مدى خمسة مجالس؛ حيث تناولا هموم أمة الإسلام وحاولا تشخيص الجراح والأمراض وأسباب الشفاء، ورسما معًا ملامح مشاركتها في ركب الحضارة من جديد، ومعالم طريقها إلى مستقبل مشرق.

وتم تقسيم الحوار- كما اقترح د. مؤنس- إلى أربعة محاور؛ الأول: يرسم آفاق هذا العصر وحدوده، ويتناول أحوال المسلمين ومكانهم فيه. الثاني: يتحدث عن ضعف المسلمين؛ أسبابه في الماضي وفي الحاضر. الثالث: جاء عن المشاكل الكبرى التي تشغل المسلمين، سواء في الميدان السياسي أو الميدان الحضاري. الرابع: اهتم بالحديث عن غد العالم الإسلامي، وكيف يمكن أن نُقيل المسلمين من عثرتهم.

وقد رأيتُ أن أعرض بعض الأفكار والنصوص المهمة التي جاءت بالمحاورة بين إبراهيم بن علي الوزير وحسين مؤنس لأني رأيتها عميقة وجديرة بتأملها والإفادة منها.. وركزتُ على ما جاء على لسان المفكر اليمني، لأن شخصيته كانت جديدة بالنسبة لي، كما أنه بالفعل أخذ مساحة أوسع في الحوار.. فما سيأتي هو من كلامه، إلا الفقرة الأولى فمن كلام د. مؤنس.

طبيعة عصرنا

عصرنا هذا هو عصر العلم، وعصر الفكر، وعصر الدول الكبرى، وعصر التقدم السريع، وعصر الأخطار التي تنجم عن القوة، وعن إحساس الإنسان بأنه لا سيد فوقه، بعد أن بلغت الإنسانية فعلاً درجة من القوة لم تعرفها من قبل.

إنه أيضًا عصر الغنى المفرط الذي لم يسبق له مثل في التاريخ؛ فإن أصحاب الملايين في عصرنا بلغوا عددًا لم يخطر على بال. وهذا المال الكثير يُطغي النفوس ويعمي البصائر. لقد بلغ الفساد في الدنيا ذروته، ولم يعد للحياء وجود في بلاد الغرب وبعض بلاد الشرق. ولا عجب في أن محنة عصرنا، وهي مرض انعدام المناعة المعروف بالإيدز، إنما أتت من الفساد الجنسي. وهذه نقمة من الله سبحانه وتعالى لأهل هذا العصر.

كذلك اقترن هذا العصر بضعف الشعور الديني؛ وهذا لا ينطبق على المسلمين وحدهم، بل على النصارى وغيرهم من أهل الدنيا؛ حتى ليقال إن البوذيين والهندوس وغيرهم من الذين يؤمنون بأديان غير سماوية، بدأوا هم الآخرون يفقدون شعورهم الديني.

عصرنا أيضًا هو عصر القوة، والقوة اليوم لا تعتمد على السيف، وإنما على النار. إن كل حروب الرومان لم تقتل ما قتلت النار والبارود من أهل الأرض في حرب واحدة كالحرب العالمية الثانية. هذه القوة التي تجمعت للإنسان إنما تجمعت له عن طريق تراكم علمي؛ استمر منذ القرن الخامس عشر الميلادي إلى اليوم، وفي اتجاه واحد.

لقد سبقونا إلى معرفة أسباب القوة، وعرفوا أن من يسيطر على منابع الثروة، يسيطر في النهاية على مصائر الأرض. ومع أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بأن نسير في الأرض ونستكشف نواصيها وبلادها، فإننا لم نسر ولم نستكشف، وقبعنا في مكاننا مكتفين بظواهر العبادات كأنهم هم الذين تلقوا الأمر؛ أما نحن فكأننا لم نتلق شيئًا من الله سبحانه، ولم يبلغنا القرآن الكريم. وكانت النتيجة أن قاموا هم بالاكتشاف والبحث، مما أعطاهم القوة… إننا كنا أول شعوب الأرض؛ لكننا ما زلنا نتدهور، حتى أصبحنا بعد تحررنا من الاستعمار في عداد شعوب الأرض التي يسمونها بالعالم الثالث([2]).

الحضارة الكاملة

علينا أن نفرّق بين “حضارة كاملة” و”حضارة غير كاملة”؛ وهذا لا يعني أن الذين بيدهم مقاليد القوة والعلم والثروة ليسوا في حضارة؛ لا، بل إنهم في حضارة لاشك فيها، ولكنها حضارة غير كاملة.

“الحضارة الكاملة” لا تكون إلا بمنهج الله؛ لأنها وحدها التي تنظر نظرة شاملة للإنسان. أما هذه الحضارة القائمة اليوم- والتي حقّقت عدلاً سياسيًّا هنا، وعدلاً اجتماعيًّا هناك، أو حققتهما معًا في بعض البلدان- فما تزال تغضّ الطرف عن المظالم النازلة بمن هم خارج إطارها. والأمثلة التي تقتل فيها الإنسانية كل يوم وكل لحظة، كثيرة وصارخة. وما أكثر هذه الأمثلة التي تنتهك فيها حقوق الإنسان، أو تقتل فيها المرأة والطفل الرضيع والشيخ المسن؛ بينما يتخذ أولو القوة والعالون في الأرض كل الوسائل لانتهاك هذه الحرمات دون أن يحركوا ساكنًا، وإن كانوا يلهجون كاذبين بحقوق الإنسان والتمدن والدعاوى التي لا حصر لها.

هذه “حضارة” بدون شك؛ ولكنها “حضارة ناقصة”؛ لأن نور الوحي لم يضئ شعابها، ويغسل قلوبها وأرواحها وأخلاقها([3]).

قانون الصلاحية العامة

الله سبحانه أنعم على الإنسان بنعمة الحرية منذ بداية الخلق، وجعل الحرية لازمة جوهرية لإنسانية الإنسان وعقله وعبادة ربه. بذلك صار الإنسان سيد مشيئته، وصار الإيمان بالله الواحد هو المعيار لتحرير الإنسان من عبودية البشر والأهواء تحريرًا كاملاً يضعه أمام مسئولياته في الحياة الدنيا والآخرة؛ فإما أن يسلك سلوكًا صائبًا أو أن يسلك سلوكًا خاطئًا؛ وبذلك يتحمل مسئولية اختياره، ويخضع للقوانين التي تترتب على الخطأ والصواب.

فحيثما سلكت الأمة سُبل الضعف والانحطاط كانت النتائج حتمية؛ فقد شملها قانون “الصلاحية العامة”: علو السيئ على الأكثر سوءًا، وتسلط القوي على الأضعف منه بالحق أو بالباطل([4]).

الفراغ لابد أن يُملأ

هكذا كان الفراغ الرهيب الذي خلّفناه في عصور تدهورنا. وسنة الله أن الفراغ لابد من أن يُملأ. وقد ملأوا هذا الفراغ الذي خلفناه، وجاء الغزاة من كل شكل ولون يشّكلون لنا حياتِنا كما يريدون، وأخلاقَنا على ما يشتهون، وعَمَلَ عقولنا بالطريقة التي يرغبون.

ومن الواضح أنهم في محاولاتهم لترسيخ هذا الواقع أرادوا أن يهدموا عقديتنا فأعنّاهم بقدر ما نستطيع، وبذرنا معهم بذور تخلفنا، وبذور انحطاطنا، وبذور اهتمامنا بالشكليات لا بالجوهريات. هكذا صرنا نهتم بشكل الدين لا بجوهره، وبقشور الحضارة لا بلبابها([5]).

فريقان

والواقع أننا فريقان:

– فريق مريض بالشكل والقشور، جعلوا دينهم مثل أصحاب البقرة من بني إسرائيل.

– وفريق مريض بمظاهر التحديث وطقوسه، وليس بالأسس والجواهر. هذا الفريق لم يعتبر بتجربة اليابان أو كوريا، بل اكتفى بنقل ملابس الغرب وهندسته العمرانية، وراح يستهلك منتجات الغرب، ويستهلك معها روح الإبداع؛ التي أنعم الله بها عليه لكي يبدع وينتج ويعطي، وليس لكي يستهلك ويهلك([6]).

الكرامة معنوية ومادية

بانسحاق شخصية الفرد، تنسحق شخصية الجماعة، ولا تجد فكاكًا من القيد والأغلال إلا بتحرير الفرد وبناء شخصيته القوية.

إن كل قصة خلق الإنسان هي قصة الكرامة الإنسانية؛ التي أنعم بها الله على هذا الكائن ليستخلفه في الأرض وليستعمره فيها. وهي كرامة معنوية ومادية.

• أما “المعنوية”: فتتجلّى في توفير الحرية له، والحرص على حماية حقوقه في حرية القول والعقيدة والتفكير، وحماية دمه وماله وعرضه.

• وأما “كرامته المادية”: فقد عبّرنا عنها بحقوقه السبعة؛ حقه في طعام يكفيه، وبيت يؤويه، وكساه يستره، وعمل يغنيه، وعلم ينتفع به، وزواج يقيم به الأسرة، ووسيلة نقل تيسر عليه أمر حياته. وهذه حقوق لا بد للنظم الاقتصادية من أن توفرها([7]).

المشكلة في الفكر والمفكرين

المشكلة ليست في عامة الناس، بل في الفكر والمفكرين. المشكلة أولاً في الفكر القاتل، والفكر الميت، والفكر الذي يبتعد عن هموم المجتمع وحاجاته، ويغضّ الطرف عن طبيعة أمراضه، ويحول أنظاره وطاقاته إلى محاربة طواحين الهواء.

والمشكلة أيضًا في هؤلاء المفكرين الذين انصرفوا عن خدمة الحقائق وخدمة النهضة وخدمة البحث عن أسباب التخلف وأسباب التقدم، وتخلوا عن أخلاق الفكر ومنهجه وشروطه ولغته واصطلاحاته، وعن كلِّ ما يجعله فكرًا نيرًا مفيدًا للفرد والمجتمع والإنسانية بشكل عام. والمشكلة في هؤلاء المفكرين الذين باعوا ضميرهم وذممهم وعقولهم للطواغيت الجهلة، وراحوا يستخدمون طاقاتهم الفكرية في خدمة لصوص السلطة ولصوص الأرض وخيرات الأرض ولصوص لقمة مواطنيهم.

فإذا أردنا فعلاً أن نعود إلى فكرٍ صائب يحتل مكانته اللائقة به، فكرٍ يعلم ويتعلم بالحوار المتصل الدائم؛ فلابد من وَصْلِ الفكر بالحرية: الفكر الذي يحرر المفكر، ويحرر الأمة، ويحرر الأرض، ويحرر العقل، ويصل حاضر هذه الأمة بماضيها المشرق. لابد من فكر موصول بمبدأ الشورى.

وإذن، فإن الحرية هي التي تُهيئ المناخ النقي؛ وإن المفكرين المخلصين الملتزمين بالحرية والموصولين بمبدأ الشورى، هم قاعدة الخير وقاعدة التقدم الدائم والتحسن المستمر([8]).

السبيل

ويبقى السؤال: ما السبيل إلى التطبيق؟ وكيف نزرع الخير لنحصده؟

أولاً: على المفكرين والدعاة أن يعمِّقوا الوعي بالداء والدواء على السواء.

ثانيًا: الدعوة بالكلمة المقروءة والمسموعة والمرئية للخروج من ظلمات ما هم فيه.

ثالثًا: الجهاد العادل والإنساني في الله بكل وسائله: السلمية والفكرية والإعلامية، وبأعلى مراحله: الجهاد بالنفس والمال. لكن القوة لا تُستخدم إلا دفاعًا عن النفس أو تحرير المستضعفين: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (الحج: 39، 40)، {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} (النساء: 75).

رابعًا: التنظيم لقوى المسلمين وطاقاتهم في كل مكان على وجه الأرض، وتطبيق الآية الكريمة التي دلَّتهم على الخروج من العذاب الأليم: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} (الصف: 10، 11). والجهاد يعني بذلَ كلِّ جهد بالمال والنفس. وتقديمُ المال؛ لأنه القوة التي يستطيعون بها تنظيم صفوفهم، ودحر أعداء الخير والحق. وعليهم كذلك أن يقيموا تجمعات الخير لعلاج المريض وتعليم الطالب ومساندة الدعوة إلى الحق والخير. يقول الله لمن ينفذ ذلك: {ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (الصف: 11- 13)([9]).

محاورات مطلوبة

هذه كانت أبرز الأفكار والنصوص التي أعجبتني في هذه المحاورة العميقة، والتي رأيتها تلامس مشكلاتٍ ما زلنا نعاني آثارها، ونحتاج لمزيد من التحاور حول طرق معالجتها..

ولا أجد ختامًا لهذا المقال إلا ما قلتُه في ختام مقال سابق، عن مدارسة أخرى، وهو مقال: من المحاورات الفكرية.. مدارسة الغزالي وعبيد حسنة القرآنية؛ حيث قلتُ: ولعل هذه “المدارسة” تكون نموذجًا للمثاقفات والمحاورات المطلوبة في ميادين شتى، بين كبار المختصين والفاقهين لدين الله تعالى ولواقع المسلمين.. هذا الواقع الذي يحتاج لأضعاف ذلك العمل الفكري الثري.


([1]) نُشرت المحاورة تحت عنوان: هموم وآمال إسلامية، إبراهيم بن علي الوزير والدكتور حسين مؤنس، منشورات كتاب واشنطن، ط1، 1999م.

([2]) المصدر نفسه، ص: 24- 27.

([3]) المصدر نفسه، ص: 56.

([4]) المصدر نفسه، ص: 261.

([5]) المصدر نفسه، ص: 81، 82.

([6]) المصدر نفسه، ص: 82.

([7]) المصدر نفسه، ص: 180.

([8]) المصدر نفسه، ص: 292، 293.

([9]) المصدر نفسه، ص: 350، 351.