يقدم كتاب “ممالك الإيمان: تاريخ جديد للعهد الإسلامي في إسبانيا ” للمؤلف براين كاتلوس مقاربات حيوية جديدة لفترة رئيسة من تاريخ البحر الأبيض المتوسط ​​والأوروبي والآسيوي. جاء هذا الكتاب نتيجة سنوات من البحث العلمي في مصادر أرشيفية لاتينية وعربية ورومانسية، واستطاع المؤلف تكوين توليفة حيوية للتاريخ السياسي والإجتماعي للأندلس أو إسبانيا في العهد الإسلامي (711-1614).

 

لقد حقق الباحث كاتلوس إنجازًا نادرًا وقيما بمعالجته للموضوع وجعله قابلا للفهم للمختصين وغيرهم على حد سواء، مع الحفاظ على “عقدة” التجارب الإنسانية والظروف المادية والأجندات وفوق ذلك البنية الاجتماعية.

انطلق المؤلف كاتلوس من التفسيرات الضبابية حول النزاعات الأساسية بين “الإسلام” أو “المسيحية” التي تؤثر على فهم الناس لهذا الموضوع.

يشير المؤلف كاتلوس في كتابه إلى أن إسبانيا في العهد الإسلامي كانت نقطة المواجهات المركزية المستمرة حيث تتقاطع فيها الديانات وتتبادل أدوار التأثير من سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس إلى وصول الإمبراطورية الرومانية “المقدسة” إلى إسبانيا في القرن السادس عشر.

كما يقدم المؤلف تفسيرات تفصيلية مدعمة بالمصادر حول الكيفية التي تم بها صياغة “الإسلام” و “المسيحية” كحقائق سياسية واجتماعية بشكل تدريجي إلى أن تحولت في نهاية المطاف لحقائق “لاهوتية” وقانونية في شبه جزيرة أيبيريا، خاصة إذا علمنا تنوع سكان هذه المنطقة المأهولة واختلاف منطلقاتهم الفكرية ضمن سياقات الأجندات المحلية والإقليمية.

وبينت “ممالك الإيمان”على مدار ما يقرب من ألف عام من التاريخ، أن الاختلافات الاجتماعية ظلت أهم ما يميز سكان شبه جزيرة إيبيريا في العصور الوسطى من الالتزامات المتنوعة، فبدلاً من الإجبار على التحول الديني أو الإستيلاء العسكري ، كانت محركات الاندماج عبارة عن عمليات اجتماعية مرتبطة بالنظام العائلي مثل روابط الوالي والرعية ، ونظام الرق ، والتزاوج في كل مستوى من طبقات المجتمع.

إن إرث التكامل الاجتماعي العابر لجميع الحدود والفوارق ، والمعزز بالمعاهدات المتكررة إضافة للزيجات المختلطة بين الأسر ظل قائما واستمرت هذه العلاقات المشتبكة حتى مع نهاية العهد الإسلامي في الأندلس عندما كانت طبقة النبلاء المسيحية تتقاتل مع نظيرتها المسلمة في حرب غرناطة من ثمانينيات القرن الخامس عشر، ومن المرجح أن القتال حدث بين أصدقاء أو حتى بين أقارب ، كما لا يمكن المبالغة في أهمية هذا المنظور الاجتماعي المبتكر عند دراسة جديدة لتاريخ إسبانيا في العهد الإسلامي.

استحوذ اهتمام كتاب “ممالك الإيمان”  على نموذجين تاريخيين فرضا سيطرتهما على حقل دراسة الرواية المعاصرة للأندلس.

الأطروحة الأولى هي “صراع الحضارات” وقدمها مؤرخون لهم وزنهم مثل برنارد لويس ، والتي شجعت في قبول فكرة الانحسار الإسلامي في ظل الحداثة الأوروبية و “فرضيات المواجهة” التي لا مفر منها بين “الإسلام” و “المسيحية”.

الأطروحة الثانية التي رسمت في المخيلة صورة غير واقعية عن الأندلس من قبل المؤرخ أميريكو كاسترو باعتبارها جنة للتسامح حيث اختزلت فكرة التعايش بسلام بين جميع فئات المجتمع الأندلسي من “يهود” و “مسلمين” و “مسيحيين” بما أصبح يعرف علميا بـ  ” convivencia ” واعتبرت هذه الحقبة منارة مضيئة وسط  – أوروبا العصور الوسطى – أوروبا المظلمة.

ماقام به كاتلوس في هذه الكتاب هو التخلص من هذين النموذجين المسيطرين على الروايات التاريخية للأندلس من خلال إظهار حالات الصراع والتعاون والتضييق والمحاكاة التي ميزت لقاءات وتقاطعات الديانات في العصور الوسطى وجاءت نتيجة للأجندات المحلية حتى وإن اقتضى الأمر الاستعانة بصيغ دينية من أجل التفسير أو التبرير لاحقا.

تجنب الباحث كاتلوس في هذا الكتاب الاستنتاجات الأخلاقية بالإمعان في التفاصيل المتناقضة للعمليات التاريخية التي لا يمكن التنبؤ بها.

على سبيل المثال ، يشير المؤلف إلى كيفية تأثر الكنيسة والجامعات في العصور الوسطى العميق بمدرسة العقلانية والأفلاطونية الجديدة والأرسطية التي حظيت برعاية علماء يهود ومسلمين أثناء فترة الموحدين والمرابطين بإسبانيا، وشجع ذلك على كشف مكامن الخلل مما دفع رجال دين وبيروقراطيين للقيام بعملية إصلاح فكرية نتج عنها في نهاية المطاف إعادة تنظيم القانون الكنسي والقانون الملكي ، وإعادة تعريف الفئات الدينية بطريقة همشت “الغرباء”.

من بين أكثر الوسائل فاعلية والتي استعان بها المؤلف كاتلوس كي  يوضح وجهة نظرته الأساسية تجاه الموضوع، أن الدين ترافقه لغة معينة و أحيانا يؤطر للصراعات لكن من النادر أن يتسبب في اندلاعها، مع استمرار التأكيد على احتمالية وقوع سلسة طارئة من الأحداث السياسية بالإضافة إلى الممارسات اليومية على أرض الواقع.

لا يعرض المؤلف كاتلوس لقرائه تهديدًا بالصراع الحضاري ولا يعد باستعادة التسامح المفقود في العالم، وبدلا من – تجسيد عادات التفكير القيمة التي تطورت على مدار أكثر من عقد من الزمان لتعزيز المجال الديناميكي في مجال دراسات البحر المتوسط ​​- فهو يجلب القراء إلى منطقة أبعد من الروايات المحلية المتوارثة ويجعلهم يرون المشهد من خلال منظار مختلف متعدد النماذج ضم المحطات التاريخية المترابطة والقصص الإنسانية المتناقضة والتي شكلت صورة إسبانيا في العصور الوسطى.

لقد غيرت أراء كاتلوس بشكل أساسي شروط هذا الحوار المهم من خلال تقديمه بديلا أكثر حكمة ومسارا ثالثا يختلف عن  نظريتي الصراع الحضاري الأبدي والحضارة المتألقة والمتعددة والمتسامحة وهو تاريخ ” الأندلس في العهد الإسلامي” الذي يتكامل ويتفاعل مع أنماط محيطه الواسع والممتد بين منطقتي البحر الأبيض المتوسط ​​و أوراسيا ، ولا يمكن  إختزالها في عوامل التنافس الديني أو الغزو الأجنبي أو شرعية السكان الأصليين. ويعتبر هذا الطرح إعادة صياغة مهمة للمسألة وتدفع به إلى اتجاهات جديدة وواعدة نحو أسئلة أكثر عمقا تتعلق بالروابط الاجتماعية والتحولات الثقافية والحوار المتبادل بين الأديان.

ويخلص كاتلوس  إلى تقديم هذا النموذج البديل والدرس الإجتماعي العميق الخاص بإسبانيا والتي لا تزال مجتمعًا متعدد الأديان ومندمجا في منظومة أوروبية متوسطية عالمية معقدة ، وبالنسبة لقرائه الناطقين بالإنجليزية قد يدركون حجم مخاطر توصيف الاختلافات الدينية بأنها “صراع حضاري” مما يمهد اندلاع حرب ما.


  • مراجعة الكتاب اختصار لمقال د. كلير جيلبرت أستاذ مساعد للتاريخ بجامعة سانت لويس.

  • مؤلف الكتاب هو د. براين أ. كاتلوس أستاذ الدراسات الدينية بجامعة كولورادو. حازت كتبه على العديد من الجوائز.