في 17 أبريل المقبل يكون قد مر 13 سنة على تدشين مصحف قطر، هذا المنجز الحضاري الذي توج به حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، في 9 مارس 2010، العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بعد رحلة استمرت نحو عقدين من الزمن، حيث أريد له أن يكون عملا استثنائيا يليق بكتاب الله الكريم، ويلبي طموح هذه البلاد التي أصبح اسمها مرادفا للإنجازات العظيمة.

مصحف قطر مشروع أشرفت عليه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر، بدأت فكرته عام 1991 ومرّ بمراحل كثيرة انتهت بعد 19 عاما تقريبا، من التدقيق والإشراف بالأزهر الشريف وتركيا، مرورا بكتابته على يدي الخطاط العالمي السوري عبيدة البنكي، فطباعته في تركيا، ثم توزيعه عالميا.

اختير خط النسخ ليكون الرسم المعتمد في مصحف قطر، وذلك للتآلف بين الحرف وحركته (التي تأتي فوقه تماما) وشكله ورسمه وزخرفته الجميلة التي تجعله واضحا، فضلا عن تميز حروف خط النسخ بمرونتها وقابليتها للتشكيل، من دون أي لبس أو تزاحم بينها.

بدأت رحلة هذا الإنجاز الحضاري الإسلامي، تحديدا، في أغسطس من العام 1991، عندما كان فكرة تداولها القائمون على الشؤون الإسلامية في أروقة المحاكم الشرعية، حتى قبل إنشاء وزارة للأوقاف والشؤون الإسلامية، عندما رفع الدكتور خليفة بن جاسم الكواري مدير إدارة الشؤون الإسلامية آنذاك مذكرة إلى سعادة وكيل المحاكم الشرعية، تتضمن مقترح كتابة مصحف باسم دولة قطر، وهو المقترح الذي ظل محط بحث ودراسة في ذلك الوقت، ولكن دون الإقدام على أي خطوات ملموسة، وذلك حتى العام 1999، عندما طفت الفكرة على السطح مرة أخرى.

كيف بدأت فكرة مصحف قطر؟

بدأ التفكير بمصحف تضطلع دولة قطر بخطه وطبعه في رحاب وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، التي لاقت كل تشجيع ومساندة واستحسان من حضرة صاحب السمو أمير البلاد حفظه الله، ثم عُرضت الفكرة على مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية في اسطنبول، لتلقى هنالك الرغبة في التعاون والمشاركة في الفضل.

وبعد اجتماعات ومداولات تم الاتفاق على عقد مسابقة دولية للخط العربي، كانت الأولى من نوعها في تاريخ الخط العربي وتاريخ كتابة المصحف، فاجتمع لها أمهر الخطاطين، وانتهت تصفياتها بفوز عبيدة محمد صالح البنكي. وأقيمت مسابقة مشابهة خاصة بزخارف المصحف، وتم اختيار أفضل ثلاثة من المزخرفين، كلفوا بتصاميم عدةٍ لأُطر الصفحات، وعلامات الأجزاء والأحزاب والأرباع والسجدات والوقفات وغيرها.

مصحف قطر

وبعد رحلة طويلة من الكتابة والتدقيق والطباعة والمراجعة والتصويب، جاء مصحف قطر ليروي في كل صفحة من صفحاته قصة العناية والرعاية والإقبال على كلام الله وحب لكلام الله تعالى، مبدع الأكوان ومنزل القرآن.

مسابقة عالمية لخط مصحف قطر

طُرحت مسابقة قطر العالمية لخط المصحف الشريف” في أغسطس/آب 2001 ووُجّهت دعوة إلى 21 خطاطا للمشاركة في المسابقة لكتابة 5 صفحات من القرآن. تم فتح المشاركة للعامة، فاستقطبت 120 من أمهر الخطاطين في العالم الإسلامي، وعُدّت المسابقة الأضخم في تاريخ كتابة المصاحف.

وبسبب كثرة عدد المتنافسين الذي فاق التوقعات، قررت هيئة التحكيم بعد أول اجتماع لها بالدوحة في مايو/أيار 2002 تحويل المسابقة إلى 3 مراحل، بعدما كانت من مرحلتين فقط، واختير 35 متأهلا لدخول المسابقة، ثم تمت المفاضلة بينهم وقلِّص عددهم إلى 14 متأهلا لخوض المرحلة الأولى في كتابة جزأين من القرآن الكريم.

قررت اللجنة رفع مقدار الجائزة المالية لصاحب المركز الأول من 70 ألف دولار إلى 100 ألف دولار، وللمركز الثاني من 30 ألف دولار إلى 50 ألف دولار.

اجتاز المرحلة الأولى 7 متسابقين من 4 دول، أقصي واحد منهم لعدم استطاعته استكمال أعماله في الموعد المطلوب، ثم اجتاز اثنان لدخول المرحلة الثالثة، هما عبيدة البنكي وصباح مغيدي الأربيلي، اللذان يعدّان من أشهر خطاطي الخط العربي في القرن الـ21، وطلب منهما الانتقال إلى قطر، حتى يكونا على مقربة من المشرفين.

شروط صارمة لكتابة مصحف قطر

وضعت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية شروطا صارمة لكتابة المصحف حرصا منها على أن يكون متميزا بين كل المصاحف المطبوعة من حيث الخط وتوزيع الأسطر والآيات والتشكيل والرسم وغيرها من الأمور الفنية، وكان يتوجب على الخطاط الالتزام بهذه الشروط والضوابط التي طرحتها الوزارة لاسيما فيما يتعلق بنهايات الآيات والمسافات بين الكلمات وتوزيع الكثافة الخطية ومراعاة الانسجام في الصفحة الواحدة وفي صفحات المصحف ككل، مع التأكيد على أن تبدأ الصفحة بآية وتنتهي بآية، وكل جزء في عشرين صفحة.

وكان الإصرار على إخراج المصحف بشكل أكثر جمالا وإبداعا، قد دفع اللجنة المعنية بمتابعة المشروع إلى الإعلان عن مسابقة مغلقة لتذهيب المصحف وزخرفته، واختيرت تركيا لهذه المسابقة نظرا لخبرتها المشهودة في الزخارف الإسلامية، وزخرفة المصاحف تحديدا. ويمكن إختصار الشروط الصارمة التي وضعتها لجنة التحكيم لكتابة مصحف قطر من الناحية الفنية والجمالية، فيما يلي:

  • المحافظة على الرسم وضبطه في كل صفحات المصحف، وعدم تغيير شكل الحروف.
  • توزيع الكثافة الخطية في كل صفحة، حتى لا يوجد ازدحام أو فراغ بين الكلمات والسطور.
  • ابتداء الصفحة بآية وإنهاؤها بآية التزاما بطريقة الحفّاظ، وضبط كل جزء بـ20 صفحة.
  • تنتهي الآية بعلامتها في سطرها، ولا توضع نهايتها في بداية سطر جديد، حيث تخلو بداية الطرف الأيمن في الصفحة من علامات الترقيم تماما.
  • دمج علامتي بداية ربع الحزب والحزب مع علامة ترقيم الآية، والتمييز بينها بألوان مختلفة.

عبيدة البنكي .. خطاط مصحف قطر

يروي الخطاط العالمي السوري عبيدة البنكي تجربته في كتابة مصحف قطر، حيث وصفها بأنها كانت تجربة ملهمة وثرية كونها مرتبطة بكتاب الله الكريم، وجاءت عقب مسابقة دولية شهدت منافسة قوية بين الخطاطين حول العالم، مضيفا “لطالما كانت أمنيتي أن أكتب القرآن الكريم، لكن لم أكن أتخيل أن أمر بهذه التجربة الفريدة وأحوز على شرف كتابة مصحف قطر الذي يتداوله اليوم ملايين المسلمين حول العالم”.

وأوضح أنه كتب مصحف قطر مرتين في إطار خوضه السباق الدولي بين الخطاطين، وقال ” كتابته للمصحف استغرقت نحو ثلاث سنوات ونصف السنة من العمل المتواصل، وكتبته بالريشة مرتين، ليخرج بهذه الصورة التي لم يعهدها تاريخ المصاحف”.

الخطاط العالمي السوري عبيدة البنكي

وقال البنكي “أن الخط هو هندسة دقيقة للحروف، لا يمكن القفز على قواعدها ومعاييرها الفنية، لا سيما وأنت تكتب المصحف الشريف ومطالب بالالتزام بمختلف القواعد الأخرى المتعلقة بالرسم العثماني، وإخراج الصفحة بشكل يجمع بين الجمال وحسن التوزيع في كل صفحة”.

ويفصل تجربته في الكتابة قائلا ” كنت أقوم بدراسة الصفحة من المصحف، ثم أكتبها بالقلم العادي “الرصاص” كمسودة، وبعدها أكتبها بالشكل النهائي، لتبدأ بعد ذلك مرحلة تصحيح الحروف وتنظيفها ووضع علامات الشكل والضبط، لتستغرق الصفحة الواحدة أكثر من ثماني ساعات من العمل المتواصل”.

طباعة مصحف قطر

لم تكن طباعة المصحف بالمهمة السهلة، فتشكلت “لجنة طباعة مصحف قطر” وكان من اختصاصاتها إعداد الدراسات والمواصفات اللازمة لطباعة المصحف الشريف وإخراجه فنياً وهو ما يتوجب الحرص على جودة الطباعة، والتجليد، والاهتمام بأدق التفاصيل الفنية بما يليق ويتناسب مع جلال المصحف وأهمية العمل. كما شملت هذه المهمة تحديد واختيار المطبعة المناسبة التي تتولى هذه المهمة.

وكان البحث عن المطبعة المناسبة هو تحد آخر يجب التغلب عليه، وبعد اقتراحات وزيارات وطباعة عينات من المصحف في عدد من المطابع هنا وهناك، استقر رأي لجنة طباعة مصحف قطر على مدينة إسطنبول التركية نظرا لتميز نماذجها عن غيرها من المطابع التي زارتها اللجنة.

وخلال فترة الطباعة استنفرت كافة اللجان المعنية بالإشراف والتدقيق والمراجعة والضبط والطباعة، جهودها للعمل بروح الفريق الواحد، وظلت تتابع عملية إخراج المصحف عن كثب، مع تواصل مستمر بين الدوحة وإسطنبول والقاهرة، للمتابعة والإشراف على أعمال الطباعة والتأكد من قيام المطبعة بأعمال الطباعة وكل ما يتعلق بها بالصورة والكيفية المتفق عليها، وطبقاً للمواصفات المحددة، وتوجيه الملاحظات اللازمة للمطبعة في هذا الشأن.

ومع منتصف العام 2009 تقريبا كانت الطبعة الأولى من مصحف قطر قد خرجت إلى النور، بعد سنوات من العمل الحثيث من مختلف اللجان التي تشكلت لمتابعة هذا المشروع.

الزخرف لتركيا والمراجعة للأزهر  

3 من أمهر المزخرفين الأتراك كُلّفوا بتصميم زخارف مصحف قطر في مسابقة خاصة وكان الانتهاء في 3 أشهر، حيث أعلنت اللجنة المعنية بمتابعة المشروع مسابقة مغلقة لتذهيب المصحف وزخرفته بالتزامن مع مسابقة الكتابة، ولأن تركيا اشتهرت بخبرتها في الزخارف الإسلامية والمصاحف تحديدا، اختير 3 من أمهر المزخرفين الأتراك.

كُلّف المزخرفون بتصميم إطار لصفحات المصحف، مع تصاميم لعلامات أرباع الأحزاب والأحزاب والأجزاء والسجدات والوقفات، وتصاميم لبدايات السور ونهاياتها، وبداية المصحف الشريف ونهايته، مع غلاف للمصحف والكعب، وكان الانتهاء من التصاميم كلها خلال 3 أشهر.

في حين تشكلت لجنة محلية مع الخطاط عبيدة البنكي للتعاون مع لجنة من الأزهر الشريف برئاسة الشيخ أحمد المعصراوي، من أجل تدقيق وفحص النسخة النهائية من مصحف قطر، وإجازتها من الأزهر الشريف، وقبل أن ترسل المخطوطة إلى الأزهر راجعتها اللجنة المحلية، ثم مرت على 300 حافظ لكتاب الله.

عقدت لجنة المراجعة بالتعاون مع لجنة من الأزهر الشريف 3 جولات من الاجتماعات واللقاءات، دُقّق فيها المصحف وروجع 14 مرة، من أجل ختم النسخة الأصلية لـ”مصحف قطر” حماية لحقوق النشر، ومنعا للتلاعب فيها في المستقبل، ومن أجل الحصول على التصحيحات والتصويبات النهائية على النسخة الأصلية، ثم أجيزت النسخة النهائية في يناير 2009.

أهم خصائص ومميزات مصحف قطر

لمصحف قطر العديد من الخصائص المميزات التي تميزه عن غيره من المصاحف يمكن إيجازها في ما يلي:

من الناحية الموضوعية :

  • أول مسابقة عبر تاريخ الخط العربي وكتابة المصحف الشريف تقام لكتابة مصحف.
  • أكبر مسابقه دولية في الخط العربي، إذ اشترك بها 120 من كبار خطاطي العالم.
  • أدق لجان التحكيم الفنية العالمية لاختيار الأفضل والأضبط من حيث قوة الكتابة وإتقان قواعد الخط.
  • أدق لجان التحكيم المحلية والعالمية للتدقيق والمراجعة حيث روجع أربعة عشر مرحلة .
  • الالتزام بالرسم العثماني في كتابة المصحف.
  • وضعت قواعد للكتابة ومتابعة الخطاط قبل بدء عملية الكتابة

من الناحية الفنية :

  • المحافظة على الرسم والضبط في كل صفحات المصحف بشكل صارم فلا تجد اختلاف او تغير في شكل الحروف طوال المصحف.
  • توزيع الكثافة الخطية في الصفحات كلها؛ فلا تجد خللاً في توزيع الكثافة الخطية بازدحام أو فراغ في الكلمات او الأسطر ، لتبدو الأسطر والصفحات في انسجام تام و تطابق عجيب.
  • الالتزام بطريقة الحفاظ حيث تبدأ الصفحة بآية وتنتهي بآية، وكل جزء في عشرين صفحة .
  • تنتهي الآية بعلامتها في سطرها، ولا توضع علامة نهاية الآية في بداية سطر جديد, فالطرف الأيمن خالٍ تمامًا أي من علامات الترقيم.
  • دمج علامتي بدايات الأرباع والأحزاب مع علامة ترقيم الآية مع تمييزها بلون مغاير.

من الناحية الجمالية

  • أول مسابقة تقام في مجال التذهيب والزخرفة لمصحف شريف.
  • تم عمل أكثر من زخرفة؛ حيث إن لكل حجم له زخرفته الخاصة به.
  • روعي في أعمال الزخرفة أن تستمد قوتها من الثقافة الإسلامية العريقة.

هواتف ذكية ومتصفحات إلكترونية

وقامت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بإطلاق موقع مصحف قطر الذي يعتبر من بين أكبر مواقع تصفح القرآن الكريم الكترونيا باستخدام أحدث التطبيقات التي تتضمنها الهواتف الذكية والمتصفحات الإلكترونية.

وتشرف على هذا الموقع إدارة الدعوة والإرشاد الديني، حيث تتولى نخبة من المختصين في المجالات التقنية والشرعية الإشراف على الموقع الجديد ورفده بكل جديد في الخدمات التقنية الحديثة وعلوم القرآن الكريم التي أفرد لها علماؤنا حيزا كبيرا بين العلوم الشرعية.

ويهدف الموقع لتمكين عشرات الملايين من مستخدمي الأجهزة الذكية على مستوى العالم من تصفح مصحف قطر والاستفادة من الخدمات المصاحبة.

وعملت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على تطويع الأجهزة الالكترونية لخدمة القرآن الكريم والاستفادة من التقنية الحديثة، وعلى إتاحة مصحف قطر نصا وصوتا على جميع الهواتف والأجهزة الإلكترونية الذكية

أكثر من 2.5 مليون نسخة متداولة

في التاسع من مارس من العام 2010، كانت الدوحة على موعد مع اللحظة تاريخية شهدها العالم الإسلامي، والمسلمون في ربوع الأرض، ومن متحف الفن الإسلامي حيث تفضل حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، فشمل برعايته الكريمة حفل بدء تداول مصحف قطر وذلك ضمن احتفالية الدوحة عاصمة للثقافة العربية.

واليوم، وبعد مرور حوالي 13 عاما من بدء تداول مصحف قطر، يجري حاليا تداول أكثر من 2.5 مليون نسخة من المصحف داخل الدولة وخارجها، فيما تستمر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الحفاظ على أعلى المعايير الفنية في طباعته، والحرص على توزيعه داخليا وخارجيا، مع إتاحته وتوفيره لملايين المسلمين وبكل الوسائط حيث نجده متاحا نصا وصوتا على جميع الهواتف والأجهزة الإلكترونية الذكية.

إن الرحلة التي قطعها مصحف قطر بكل تفاصيلها تعكس عزيمة أهل قطر على صناعة تحفة حضارية لا مثيل لها، وبما يتفق مع ما دأبت عليه هذه البلاد من اهتمام بكتاب الله، ورعاية لحفظته، وذلك ضمن إطار أشمل من الاهتمام والمتابعة للشأن الإسلامي وقضايا المسلمين على امتداد العالم.

وكانت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية قد وقعت آخر يونيو 2022 عقدا لطباعة 700 ألف نسخة من مصحف قطر، وهي الطبعة الخامسة منذ تدشين مصحف قطر في عام 2010.

ونص العقد على أن تستغرق عملية الطباعة عاما كاملا من تاريخ توقيع العقد، شاملة فترة توريد الورق، ليصل عدد المصاحف المطبوعة من مصحف قطر بجميع أحجامه مع اكتمال الطبعة الخامسة واستلامها إلى نحو 3.4 مليون مصحف.


مصادر:

الموقع الرسمي لمصحف قطر

وكالة الأنباء القطرية

وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر

صحف ومواقع قطرية