الشيخ محمد مصطفى المراغي هو أحد شيوخ الجامع الأزهر وأكثرهم ذيوعا واستنارة في النصف الأول من القرن العشرين، اقترن اسمه بعدد من المشروعات الإصلاحية المهمة من قبيل مشروع إصلاح الأزهر ومشروع قانون الأحوال الشخصية وبعث قضية الاجتهاد.

ولد المراغي في بلدة المراغة بمصر عام 1881 والتحق بالجامع الأزهر ولازم دروس الشيخ محمد عبده حتى نال درجة العالمية عام 1904، وعين قاضيا في السودان ثم أصبح قاضي قضاة السودان، وعقب عودته لمصر تدرج في مناصب المحاكم الشرعية حتى وصل إلى منصب رئيس محكمة مصر الشرعية، وتولى منصب مشيخة الجامع الأزهر مرتين: 1928 وعزل عنها لمواقفه الإصلاحية وآراءه الاجتهادية التي جرت عليها عداء بعض الأزهريين، ثم عاد وتولاه مرة ثانية عام 1935 وظل فيه إلى أن توفاه الله منتصف الأربعينيات.

المشروع الفكري: المؤثرات والخصائص

والمكون الفكري للشيخ هو مكون ديني تقليدي فقد التحق بالمؤسسة الأزهرية في مرحلة تاريخية كان تيار الإصلاح ضعيفا بداخلها، إلا أننا نلمس وجود مؤثرين أسهما إلى حد بعيد في تشكيله على نحو مغاير لما سار عليه معاصروه، الأول: تمتعه بحس نقدي فطري أهله لأن يضع موضع الاختبار بعض التقاليد الأزهرية الراسخة  كقراءة الكتب المطولة على يد المشايخ، والاكتفاء بتلقي العلم عن طريق السماع دون التحصيل الذاتي[1]. والثاني: إجادته اللغة الإنجليزية في شبابه وقد كان تعلم اللغات الأجنبية أمرًا نادرا بل ومستهجنا بين الأزهريين في مطلع القرن العشرين، وقد فتحت اللغة الإنجليزية أمامه أبوابا من المعارف الحديثة ومكنته من التعرف على الجوانب الإنسانية في الحضارة الغربية فتجاوز بهذا موقف من لم يروا في الغرب إلا وجهه الاستعماري البغيض.

يتسم مشروع المراغي الإصلاحي بعدد من الخصائص المميزة، وفي مقدمتها اعتبار القرآن الكريم ركيزة للنهضة ومنطلقا للنهوض، ومنها الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد المطلق في الأحكام الشرعية لجعلها ملائمة للمستجدات التي طرأت على المجتمعات، ومنها الانتقال بالشريعة من الصيغ الفقهية إلى الصيغ القانونية حين شارك في صياغة مشروع قانون الأحوال الشخصية، ومنها عدم الاستغراق في الأطر النظرية والإكثار من التآليف والتوجه مباشرة صوب الإصلاح المؤسسي متمثلا في مشروعه لتطوير الأزهر.

وهذه السمات تجد صداها لدى استاذه ومعلمه محمد عبده، ولذلك يُصنَف مشروع المراغي الإصلاحي بأنه حلقة من حلقات تيار الإصلاح الإسلامي الذي تأسس في القرن التاسع عشر، لكننا نلحظ فارقا مهما وهو أنه لم يسر على نهج الإصلاحيين المتأخرين فلم يقع في فخ التقوقع حول الذات بحجة الحفاظ على الهوية المعرضة للتهديد، وظل مشروعه الفكري قائما على اللامذهبية ونبذ التعصب بين الفرق والمذاهب الإسلامية، ومنفتحا على أهل الأديان والتوجهات الإنسانية العالمية، وقد ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه الإصلاحيون المتأخرون في هذا المجال ويكفي أن نشير إلى أن الشيخ رشيد رضا تحفظ على دعوته لإرسال طلبة الأزهر للدراسة في أوروبا.

معالم المشروع الإصلاحي للشيخ مصطفى المراغي

يتركز المشروع الإصلاحي للشيخ المراغي حول عدد من المحاور التي يمكن إجمالها في النقاط التالية:

– إصلاح الأزهر: وهي أهم حلقات المشروع الإصلاحي للشيخ مصطفى المراغي ، وجسدتها مذكرته الإصلاحية لتطوير الأزهر التي أعدها فور توليه المشيخة، واستهلها بقوله: “صار من المحتم، لحماية الدين لا لحماية الأزهر، أن يغير التعليم في المعاهد، وأن تكون الخطوة إلى ذلك جريئة، ويقصد بها وجه الله تعالى فلا يبالي بما تحدثه من ضجة وصراخ وقد قرنت كل الإصلاحات في العالم بمثل هذه الضجة”.

بسطت المذكرة واقع المؤسسة العريقة المتردي من كافة الجوانب وبينت مظاهر الخلل بدقة، حتى قال رشيد رضا “لقد أوتي الأستاذ الأكبر في هذه المذكرة الحكمة وفصل الخطاب”، وهو لم يقف عند حد التوصيف وإنما وضع آليات للإصلاح حددها في: دراسة القرآن الكريم والسنة النبوية دراسة جيدة وفقا قواعد اللغة العربية وقواعد العلم الصحيح، وفتح الدعوة إلى الاجتهاد المطلق في الأحكام الشرعية، وتهذيب العقائد والعبادات الإسلامية مما جد فيها وابتدع، وأن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب بعينه، وأن تدرس الأديان والعقائد المختلفة بالأزهر، وأن يتم إدخال العلوم الحديثة واللغات الأجنبية إليه[2].

وقوبلت المذكرة بالرفض من جانب فريق من الأزهريين عبر عن موقفه من خلال بيان مطبوع وزع مجانا وضعه الشيخ عبد الرحمن عليش عضو هيئة كبار العلماء، ويكشف البيان عن تهافت المنهج النقدي وعن التردي العلمي الذي كان عليه حال هذا الفريق الذي لم يخجل من التصريح بأن انعزال العلماء وجهلهم بمجريات الحياة المعاصرة “مدح لا ذم فيه وهل يراد بالعالم أن يكون مبتذلا بين العامة”، وأن الاجتهاد المطلق يعد خطرا إذ لو تمت الدعوة إليه لادعاه كل غبي جهول لا يدري من أمر الدين شيئا ولنفتح بذلك باب شر لا يمكن سده، وأن الانفتاح على العلوم الحديثة أمر مستهجن بحجة أن العلماء “غير مخصصون للبحث عما يجد في الحياة من معارف وآراء” وأن الأزهر ليس مدرسة للصنائع أو مدرسة حربية[3].

– مشروع تقنين الأحوال الشحصية: ومن المواقف الإصلاحية للشيخ مصطفى المراغي مشاركته في صياغة مشروع تقنين الأحوال الشخصية المصرية في عشرينيات القرن الفائت وكان يسعى للحد من حرية الرجل المطلقة في الطلاق، واللافت للنظر أنه رغم كونه حنفي المذهب وأن مذهب الدولة الرسمي كان كذلك إلا أنه كان مؤمنا بإمكانية الاقتباس من المذاهب غير السنية ما يناسب العصر والمصلحة، ونقل عنه قوله لأعضاء لجنة الأحوال الشخصية ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمصلحة والمكان ولا يعوزني أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم، ولا غرابة في ذلك فقد كان من دعاة التقريب بين المذاهب، وكان من كتاب مجلة (رسالة الإسلام) لسان حال جماعة التقريب.

– علاقة الدين بالعلم: وهي قضية أثيرت بقوة في عصره وكان له موقف رشيد منها فلم ينكر إمكانية توظيف العلم لخدمة الدين كأن يؤخذ بعلم الفلك لتوحيد بدايات الأهلة القمرية، وهي الفتوى التي جرت عليه انتقادات الفقهاء الحرفيين، لكنه في المقابل كان يعتقد بثبات أنه لا ينبغي أن يقحم العلم في الدين دون مسوغ بحيث كلما جد مخترع أو مكتشف علمي هرول فريق من المسلمين ليبحثوا عما يوافقه من النصوص الإسلامية، واستند في ذلك إلى عدم يقينية نتائج هذه العلوم وأنه ليس من الحكمة أن نربط هذه المعارف غير القارة بكتاب الله الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وبالطبع ليس الشيخ ممن ينكر أن بعض آيات الكتاب الكريم لا تفهم حق الفهم إلا بمعارف فلكية وطبيعية، ولكنه ذهب إلى أن تلك لم تسق لتقرر تلك المعارف وإنما نزلت للهداية والعبرة فليس القرآن كتاب حساب أو فلك أو طبيعة، وإنما هو كتاب هداية وتنظيم لعلاقة الإنسان بربه وعلاقة أفراد الناس بعضهم ببعض.

– الزمالة بين أهل الأديان: ومن المعالم الإصلاحية الهامة لدى الشيخ المراغي رؤيته بشأن الزمالة الإنسانية بين أهل الأديان، والتي صاغها في بحثه المقدم إلى مؤتمر الأديان العالمي الذي انعقد في لندن عام (1936م)، وقد شدد فيه على أن الخطر الذي يداهم الإنسانية لا يأتي من أديان المخالفين وإنما يجيء من الإلحاد ومن المذاهب الفكرية التي تزدري بالأديان، ووجه دعوته إلى المؤمنين جميعا لأن يعملوا على إزاحة العلل التي حالت دون تأثير الشعور الديني في التقريب بين الناس على اختلاف ديانتهم، ومن أجل تحقيق هذه الغاية اقترح إنشاء هيئة عالمية تعمل على تنقية الشعور الديني من الأحقاد تكون مهمتها الأساسية العمل على توجيه الوعظ الديني في جميع الأديان نحو تنقية الضمائر من الضغائن تجاه معتنقي الديانات الأخرى، والبحث عن المشتركات بين الديانات، وجعل الدعوة أو التبشير إلى الأديان قوامها العقل وأن يعتمد في ذلك على وسائل شريفة بعيدة عن الاحتيال والإغراء وتشكيك الناس في عقائدهم.

وبالجملة كان الشيخ المراغي رائدا من رواد الإصلاح الإسلامي، تجاوزت دعوته الإصلاحية الحدود القطرية والأطر المذهبية وشملت الدعوة للزمالة بين أهل الأديان جميعا.


[1] محمد كرد علي، العلامة محمد مصطفى المراغي، دمشق: مجلة المجمع العلمي العربي، مج 21، ع7-8.

[2] أنظر نص المذكرة في: مجلة المنار، مج 29، سبتمبر 1928، ص325.

[3] عبد الرحمن عليش الحنفي، بيان للناس وتقرير حقائق بالبرهان، القاهرة: مكتبة صبيح بالأزهر، ص5-8.