برز علم مقاصد الشريعة في ثنايا علم أصول الفقه أثناء الحديث عن العلة في باب المناسبة، وهذا يعني أن مقاصد الشريعة ظهرت مع دليل القياس، كما برزت مع الحديث عن المصلحة المرسلة، باعتبار أن المصالح هي جوهر المقاصد، حتى ذهب بعض الفقهاء إلى أن المصالح والمقاصد مترادفان.

إلا أن أصوله كانت ممتزجة مع أصول التشريع منذ الصدر الأول للإسلام، دون النص عليه صراحة، مع الإشارة إليه في مراحل متقدمة، كما قال العز ابن عبد السلام – رحمه الله-: “ومن تبع مقاصد الشارع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع لك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها نص ولا إجماع ولا قياس خاص، فإن ففهم نفس الشرع يوجب ذلك…”([1]).

ثم بدأ يستقل تدريجيا عن علم أصول الفقه، ابتداء مما كتبه العز بن عبد السلام في كتابه القواعد، وما كتبه  البلخي في مصالح الأبدان والأنفس، ومحاسن الشريعة للقفال الشاشي، وصولا إلى ما كتبه الشاطبي حين أفرد له جزءا من كتابه “الموافقات”، إلى ما كتبه الدهلوي في ” حجة الله البالغة” ثم الشيخ الطاهر ابن عاشور  في كتابه ” مقاصد الشريعة الإسلامية“، وهو أول مؤلف يفرد مقاصد الشريعة بالتأليف والتصنيف، وقد نالت المقاصد بعده شهرة فائقة، واستقل عن أصول الفقه – كما يرى كثير من العلماء المعاصرين-، وأضحى له مسارات تدريسية خاصة، وأنشأت له أقسام في الكليات الشرعية والإسلامية، وتخصص عدد كبير فيه خاصة في بلاد المغرب العربي، وكتبت فيه عشرات بل مئات الأطروحات في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، التي تناولت إما مباحث من علم المقاصد، أو جهود العلماء فيه عبر الحقب التاريخية  المتباينة، أو غير ذلك من مباحثه،  ومازلنا في هذه المرحلة التي تمثل مرحلة النضج في علم مقاصد الشريعة.

الفرق بين الشريعة والتشريع

على أن هناك خلطا بين مفهومي الشريعة والتشريع، فغالب كلام الفقهاء في ما يسمونه (مقاصد الشريعة)، ينصب في مقاصد التشريع وليس مقاصد الشريعة.

فالشريعة: هي ما شرع الله تعالى لعباده من الدين من العقائد والشرائع، كما قال الله تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا}[2].فهي في الغالب تطلق على الشرع، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] فالشريعة هنا كل ما شرعه الله تعالى لعباده.

أما التشريع فيقصد به خطاب الله تعالى الذي يتعلق بأفعال الناس طلب ترك أو طلب نهي أو تخيير أو وضعا، وهو بهذا يقصد به الفقه.

ويطلق البعض الشريعة على التشريع، كما جاء في تفسير المنار (6/ 342-343): ” وروى ابن جرير من عدة طرق عن ابن عباس أنه قال في تفسير ” شرعة ومنهاجا ” سنة وسبيلا، وظاهر من قول قتادة أن الشريعة أخص من الدين، إن لم تكن مباينة له، وأنها الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل، وينسخ لاحقها سابقها، وأن الدين هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء. وهذا يوافق أو يقارب عرف الأمم حتى اليوم، لا يطلقون اسم الشريعة إلا على الأحكام العملية، بل يخصونها بما يتعلق بالقضاء، وما يتخاصم فيه إلى الحكام، دون ما يدان الله تعالى به من أحكام الحلال والحرام).

على أن الشريعة وهي السبيل والطريق والمنهج القويم أشمل من الأحكام العملية، ومن هذا، فإن حصر علم المقاصد بمقاصد التشريع والأحكام الفقهية من المعاملات والعبادات والأحكام الشخصية وفقه السياسة الشرعية، وفقه الحدود والجنايات وغيرها،  وإن سمي مقاصد الشريعة؛ فإنه تضييق لمفهوم الشريعة، فالناس بحاجة إلى معرفة (مقاصد العقيدة)، و (مقاصد الأخلاق)، و (مقاصد التربية)، و ( مقاصد السلوك والتزكية)، وغيرها مما يمكن أن يندرج باتساع في مفهوم الشريعة، بل يتعداه إلى ما هو أبعد من هذا، من ( مقاصد الحضارة والعمران)، وغير ذلك مما يوسع مفهوم المقاصد؛ لتشمل جميع نواحي الحياة والعلوم على حد سواء، وبهذا يتسع أفق المقاصد لتكون ضابطة للإنسان والعلم والحياة معا، وهي النظرية العبقرية التي تميز بها الإسلام عن غيره من الأديان والشرائع.


([1]) راجع: القواعد الكبرى، العز ابن عبد السلام، ج 2، ص 31 دمشق: دار القلم، 2000 م،

[2]– [الجاثية: 18]. راجع: شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم (6/ 3431)