اهتمت الرؤية القرآنية بأن تضع منهجا متكاملا لصلاح الإنسان، وشن القرآن حربا على المفسدين في الأرض، فهو لا يعد الفساد جريمة فردية، قال تعالى ” تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ”[1]  فالعلو أحد المسببات الكبرى للفساد، والعلو يطل من زاوايا عدة منها: اعتقاد الحق من خلال النسب أو الجاة أو المال، كذلك الغرور والكبرياء، والغلبة بالباطل وقهر الناس.

وقد وردت كلمة الإنسان في القرآن الكريم (56) مرة، وكلها في إطار سلبي، فالإنسان ضعيف وظلوم وجهول، وهذه الصفات السلبية تحتاج إلى إصلاح وفق منهج قويم، وقد بحث علماء الأصول في الإسلام عن الغايات والمقاصد التي بُعث من أجلها الرسل فوجدوا أنها تعود إلى أصل واحد وهو مصلحة الإنسان[2]، والإصلاح ذو دلالة لغوية تشير إلى تقويم ما اعوج، وترميم ما تداعى، وتشغيل ما انعطب، وتقوية ما تفسخ وانحل، فهو حالة ترفض الجمود وتؤثر الحركة للعودة بالشيء إلى عهده الأول في القوة والانسجام والقيام بوظائفه على أفضل ما يكون.

وفي هذا الإطار جاء صدور العدد (64) من مجلة التفاهم العمانية ربيع(1440هـ = 2019) متناولا مناهج الصلاح الإنساني ومشكلات الفساد في حوالي (400) صفحة.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

من بين الأدوار التي اهتمت بها الرؤية الإصلاحية في الإسلام هي الإصلاح على الجانب السياسي، بدءا من تحقيق المساواة بين الناس، إلى إيجاد قيمة الشورى بين الحاكم والمحكوم، وتأكيدها أن الاستبداد والفساد وجهان لعملة واحدة.

كان الفقهاء الأحناف أول من استعمل مصطلح السياسة، وقصدوا به “الإجراءات التي يتخذها السلطان من خارج القضاء من أجل الصالح العام بحسب تقديره” لكن مع القرن الثالث الهجري أخذت مفردة السياسة تحضر في كتب الفقهاء، واستخدموها بمعنى التدابير السياسية وإدارة الشأن العام، واستعملها آخرون بمعنى تغليظ الحاكم للعقوبة ووضعوها في إطار التعزيرات، وكان من روعة الشافعية قولهم “إن التعزيرات لا يجوز أن تتجاوز في مقاديرها الحدود، فمن استحق القطع لا يجوز قتله، ومن استحق الجلد لا يجوز صلبه، ومن سرق أقل من النصاب لا يجوز إقامة الحد عليه”، ويبدو أن تلك الفترة شهدت تجاوزا من السلطة في العقوبة التعزيرية، فيحكي الإمام الجويني أن قائد الشرطة في بغداد كان يضع الذين تتكرر جرائمهم في قدور ويغلي عليهم، أما الأحناف فكانوا لا يجيزون القياس في الحدود أو عليها، وربما كان قصدهم من ذلك الحيلولة دون تغول السلطة من القياس الذي لا حدود له، و كان الشافعية والحنابلة مختلفين بشأن أمرين فقهيين:

الأول: تغليظ العقوبة على المخالفين بما يتجاوز الحدود

الثاني: من له حق إجراء العقوبة، وهل يجوز للسلطة إنفاذ العقوبة خارج إطار القضاء

ويبدو أن الفقهاء خشوا من تجاوز السلطة في مسألة التعزيرات بما يرسخ فكرة الاستبداد، وذكروا أن من يفعل ذلك من الولاة والسلاطين إنما يتشبه بالأكاسرة والملوك الظالمين الذين يظنون أنهم أعلم من السماء بكيفية تأديب المذنبين.

وفي القرنين الرابع والخامس الهجري دار نقاش بين الفقهاء حول كيفية تحقيق العدالة والمصلحة معا؟ وحول من الذي يحدد ذلك؟ هل القضاة أم موظفو الدولة؟ ومدى حرية السلطة في التصرف إزاء الأمور التي تتطلب عقوبات رادعة؟

كان الشافعية يرون أن يتم ذلك كله أمام القضاء، ورأى آخرون أن تتولى السلطة إيقاع التعزيرات والتي قد تتجاوز الحدود كنوع من السياسة عند الضرورة، وكان الإمام الجويني وهو شافعي يقول:”لستُ أرى للسلطان اتساعا في التعزير إلا في إطالة الحبس”، ثم أخذ الفقهاء يعرفون السياسة بـأنها “ما يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول-صلى الله عليه وسلم- ولا نزل به وحي”، وبذلك تحولت السياسة إلى تعريف يختص بإدارة الشأن العام التنظيمي والسياسي بما يؤدي إلى صلاح حال الناس وإبعادهم عن الفساد.

ويرتبط بقضية الإصلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مبدأ يرتبط بفعالية الأمة في ميدان التدافع الإنساني في معركة القيم، والمنكر هو ما تستقبحه الفطرة السليمة، ويحكم الدين بقبحه، أما المعروف فيكون مشتركا إنسانيا تلتقي فيه الأجيال والعصور والمقاييس.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أًصل للمجتمع المدني، وهو حصن منيع ضد عوامل التآكل والفساد مما يحفظ تماسك المجتمع وقوته ويمنحه القدرة على التطور والرقي، والتطهر الذاتي، يقول الإمام الغزالي :”إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهمة التي ابتعث الله لها النبيين أجمعين، ولو طُوي بساطه (أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة“، ويقول الكواكبي “أقوى ضابط للأخلاق النهي عن المنكر بالنصيحة والتوبيخ؛ أي بحرص الأفراد على حراسة نظام الاجتماع”، فالإنسان يظل على الصلاح والطريق المستقيم بإحدى طريقتين، إما بوعي ذاتي، وإما بوعي مجتمعي، والوعي المجتمعي أسماه القرآن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والصبر، فالمجتمع رقيب في التعاون على البر والتقوى، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه “فقه الصيانة” للمجتمع، لأن جملة الأحكام الشرعية إنما هي أحكام أخلاقية جاءت لصلاح الإنسان في الدارين، يقول الإمام الشاطبي:” والشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق“، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “أمر مشروع، لأنه سبب إقامة الدين، وإظهار شعائر الإسلام، وإخماد الباطل علي أي وجه كان”.

إصلاح العلاقة بين الدين والعلم

إصلاح العلاقة بين الدين والعلم، أو بين العقل والنقل، أحد مداخل الإصلاح الكبرى، فتقدم العلوم الطبيعية بدرجة تفوق  العلوم الإنسانية خلق أزمة المعنى، لذا رأى بعض المفكرين أن بناء معرفة إنسانية حقة لا يجب أن يعتمد فقط على إمدادات الحس أو المناهج التجريبية فقط؛ بل لابد من البحث عن الدلالات، وهنا تتجلى أزمة الحداثة الغربية، التي استتبعت ظهور نزعة ما بعد الحداثة الذي تحدث عن المفكر الفرنسي “فرانسوا ليوتار” الذي ذكر أن تلك النزعة تعني فقدان المرويات الكبرى لمصداقيتها، ومن بينها العلم باعتباره “ديانة عصر الأنوار”، وكشفت تلك النزعة أن العلم نفسه قائم على عقائد لا تقبل التسويغ، لذا سآلت العقلانية، وسمحت باكتشاف  فكرة الإيمان السابق على العقل، كما أعطت الدين الحق في الشهادة على الأفكار الحديثة بجرأة بعد فترة الكبت.

وعلى جانب آخر تمثل علاقة الدين بالقيم الأخلاقية محور نقاش العديد من المفكرين والباحثين، فالدين عند البعض هو مصدرالقيم الأخلاقية ومنبعها، وهو الضامن للتماسك الاجتماعي، وهو قانون اجتماعي عالي الجدوى يقوي الشعور بالانتماء، لما يثيره حول مسألة المعنى، فالأديان “لا تُعنى بتفسير الكون إلا بقدر ما تحدد ما ينبغي للإنسان أن يقوم به إزاء الكون” ومن ثم فالأخلاق تتغذى من القيم الدينية بحيث لا يتصور إمكانية الفصل بينها، وكل خلق له إلزام يرتبط بأوامر ونواه توجه سلوك الفرد والمجتمع وتجعل للمجتمع معاييره التي يحتكم إليها، وهو ما يتناقض مع رؤية العلمنة الشاملة.

ويلاحظ أن قيم ما بعد الحداثة تقوم على مبدأ التشكيك في كل القيم والمرجعيات، على اعتبار أن المعرفة التي ينتجها الأقوياء ليست إلا جزءا من الهيمنة، فالمجتمعات التقنية تبتعد عن غاية الفعل إلى وسائله وهو ما أسقط السلطة الفكرية واقترب من فكرة الفوضوية، التي تقبل بكافة الأذواق وتجعل كل إنسان هو معيار ذاته، وهنا تتشظى القيم والمرجعيات وتصبح أقرب إلى التوجهات الحرة المنزوعة القداسة، فنمت النزعة الاستهلاكية التي ترفع شعار “أنا استهلك إذن أنا موجود” وتحددت الهوية من خلال الاستهلاك، فنمت الفردانية، ووقع الإنسان في دائرة العدم التي لا تعتقد في شيء إلا في اللحظة الراهنة، فزعمت أن الحقيقة والصواب ولت إلى غير رجعة بحيث أصبحت القيم قضية خاصة.

ومن ثم فمعالجة المسائل الكبرى في الصلاح والفساد يجب أن يساهم فيها الفكر الإسلامي بمنهجية إسلامية ذاتية، وأخرى عقلانية ومصلحية عالمية تستطيع أن تطرح خطابا إنسانيا وإسلاميا عالميا يحقق الصلاح ويقاوم الفساد والإفساد.

 


[1] سورة القصص: الآية 83

[2] يقصد به الإنسان الفرد، وكذلك المصلحة البشرية العامة