الالتفات أحيانا إلى المعضلات الاجتماعية وقضاياها موعظةٌ ودعوة وإصلاح، وهو من سنن الأنبياء وما يقررونه بعد إثبات التوحيد، ويدل ذلك على شمولية الإسلام. ويجد المتتبع للتاريخ الإسلامي وهدي سلف الأمة رضوان الله عليهم أن العلماء لم يهتموا بالتعليم وبمادته العلمية فحسب، بل اهتموا بالرقيّ به وبإصلاحه، وذلك بإرجاعه إلى حالة اعتداله، وإزالة ما طرأ عليه من فساد.

لم يَقدُم الإمام الغزالي على تأليف كتابه: “إحياء علوم الدين” إلا إصلاحًا للتعليم الديني في زمنه. يقول: “شغر الزمان من العلماء، ولم يبق إلا المترسمون، وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان.. “”.

لقد تعرضت أكبر جامعتين في العالم الإسلامي لسلسة إصلاحات: فعني محمد عبده بإصلاح الأزهر، كما اهتم ابن باديس بإصلاح الزيتونة. يقول ابن باديس: ” فهل نعدّ منهجًا ينبت به أبناؤنا نباتًا حسنًا فيكون رجاؤنا عظيمًا، أم نستمر على ما نحن عليه فيضيع الرجاء؟

واقع التقوقع حول الذات

معضلة منظومة التعليم العربي الإسلامي في الكثير من دول غرب إفريقيا أنها تقليدية، فردية، ليست مواكبة للنظام التعليمي الحديث، وليست مرتبطة بإعداد الطلبة لسوق العمل، وليس لخرّيجها تأثير عملي ومدني ملموس مقارنة بالنظام التعليمي الرسمي. فهل في ذلك إشكالية ؟!

يهون الأمر لو كانت المدارس المتبعة لهذا النوع من النظام التعليمي قليلة تعدّ بالأصابع، لكن الحقيقة أنها موجودة بكثرة وبأغلبية ساحقة مقارنة بالنظام التعليمي الرسمي.

يذكر أن الباحث لم يقف على مثيلات هذه المنظومة التعليمية الدينية في الدول الإسلامية والعربية، فهي توفر في أغلب مدارسها ما يوفره النظام التعليمي الرسمي باللغة الفرنسية في الكثير من دول غرب إفريقيا، ولا فرق إلا اللغة. فكأن دول غرب إفريقيا تفرّدوا عن الدول العربية والإسلامية بمثل هذا النظام التعليمي، وفي الكثرة الغالبة خاصة، وهذا بدوره محلّ استفسار!

يضاف إلى هذا أن الفرصة الوظيفية المؤكدة لبعض خريجيها هي الإمامة، والتدريس والوعظ، وبشكله التقليدي أيضا. إذ لا مؤسسة مدنية متطورة تدير العملية كما ينبغي. وباقي أغلب خريجيها ينتهي الأمر بهم إلى السوق للتجارة أو الأعمال اليديوية للاكتساب بعد فترة طويلة من الدراسة. فهل يحق لطلبة هذه المنظومة التعليمية التساؤل عن لماذا حالهم ومستقبلهم لا كحال ومستقبل طلبة النظام التعليمي الرسمي، أم أن الإخلاص في التعليم الديني المعاصر منع من طرح هذا التساؤل والتفكير في مصدر الرزق والاكتساب بعد التخرج؟!

لعله يجدر بالذكر القول بأنه لو كان ارتباط التعليم بالتوظيف والاكتساب من أبجديات ثقافة العصر فإن الجيل الثاني من طلبة الفقهاء المجتهدين فطِنوا إلى ذلك. إذ إن مسألة أخذ الأجرة على التعليم وعلى الفتوى والإمامة والأذان واعتبارها صنعة ومهنة؛ من المسائل التي خالف فيها مشايخ المذهب الحنفي ما نص عليه مجتهد المذهب في مواضع كثيرة، بناءً على ما كان في زمنه؛ لعلمهم بأنه لو كان الإمام في زمنهم لقال بما قالوا به أخذا بقواعد المذهب. فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم، مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف لانقطاع عطايا المسلمين التي كانت في الصدر الأول، ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجرة يلزم ضياعهم وضياع عيالهم ولو لم يُحكَم بجواز أخذ الأجرة على التعليم لأعرض الناس عن هذه المهنة بسبب انشغالهم في الكسب للحصول على لقمة العيش ، وبذلك يضيّع العلم والتعليم كما جاء في حاشية ابن عابدين.

معضلة “الاعتراف”  بالشهادات

يدور كثيرا في أوساط الملتحقين بالمنظومة التعليمية العربية الدينية في الكثير من دول غرب إفريقيا الحديثُ عن ضرورة الاعتراف الرسمي بشهاداتهم العلمية، والسعي لذلك. وأجد غموضا علميا حول مفهوم “الاعتراف”! لنقف على الآتي:

  1. إن قٌصد بالاعتراف الإقرار بوجود هذا النوع من التعليم، فالجهات التعليمية الرسمية معترفة بذلك، لأنها تمنح تصريح تأسيس، وتعتبرها مؤسسة تعليمية خاصة.
  2. وإن قصد به التصديق على صحة صدور الشهادة من إحدى المدارس المتبعة لهذا النظام التعليمي فذاك أيضا متوفر!
  3. أما إن كان المقصود به “المعادلة” مع شهادات النظام التعليمي الرسمي الفرنسي فذاك أمر آخر. ويقرّ كل مطلع ومنصف بوجود البون الشاسع والفروقات الجوهرية بين النظامين: غايةً ومضمونا، ومنهجا ولغة وثقافة وتبعية.
  4. وإن كان المقصود به قدرة الحصول على الوظيفة الرسمية بهذه الشهادات، فهذا ثمرة النقطة السابقة، وإن المطلع ليعلم بأن المنظومة التعليمية العربية الدينية لم تقم أساسا لذلك، ولا وضعت ذلك ضمن أهدافها . فهل ثمة تناقض؟!

حلول مقترحة:

لعل الاستقراء والسبر والتقسيم يوصلنا إلى أحد الخيارات الآتية:

  • إبقاء المنظومة التعليمية العربية الدينية على حالها: والإيجابية الوحيدة هنا هي توفير جوّ لتعليم الإسلام. وإثم هذا الاحتمال في عصرنا هذا أكبر من نفعه لو صح للكاتب تبني رأي. إذ التهميش الوظيفي واضح، والضرر قائم ومؤكد، ويزيد احتمال قلة تأثير المسلم في المجتمع، وإعطاء ذلك للنظام الآخر، وتغريب المسلم الملتحق به.
  • التقليل منها: احتمال إبقاء المنظومة التعليمية العربية الدينية على حالها قائمٌ بشرط التقليل من المدارس المتبعة لهذا النظام، فينفر طائفة من أبناء الأمة لواجب الدعوة، وليس الكل ولا السواد الأعظم.
  • إغلاقها: وهذا احتمال مرفوض، بلا شك. اللهم إلا إذا وجد نظام يقوم مقامه، وفق ما سيأتي!
  • التكامل المعرفي: ويقصد به هنا إضافة مواد علمية إلى المنظومة التعليمية العربية الدينية وتدرس باللغة الفرنسية وفق المنهج الرسمي، فينشأ الطالب شمولي المعرفة.
  • الاستيعاب والتجاوز: ولعل هذا هو المعمول به في الدول العربية وبعض الدول الإسلامية والأصل هنا تبني مواد النظام التعليمي الرسمي باللغة الفرنسية واستيعابها كما ترسمه الجهات التعليمية الرسمية، وعدم الاكتفاء بذلك بل يُتجاوز إلى إضافة مواد دينية تهدف إلى ملئ الفراغ المفقود.
  • إيجاد بدائل: منصات سبل القيام بالدعوة خارج المسجد تتعدّد، فثمة المراكز الثقافية والبحثية، والأندية الشباية، والكراسي العلمية، وغيرها من المؤسسات الدينية والمدنية.

أخيرا، لا شك أن الحديث يختلف لو وجدت جهات رسمية تهتم بالدين وتنظم أموره. لذا ما طرح هنا يعتبر آراء واجتهادات فكرية، وهي اقتراحات ورؤى، يمكن تطبيق بعضها كما يمكن الجمع بينها، عسى أن تسهم في تحسين العمل الدعوي في ثوب النظام التعليمي والبحثي والأكاديمي، في مجتمعٍ المسلمون فيه أقلية من حيث التأثير العملي، رغم أنهم الأغلبية عددا!