آية من آيات الكرم الإلهي اللامحدود لعباده المؤمنين المتقين المنفقين.. يضرب الله مثل من ينفق في سبيل الله، كمثل زارع يلقي حبة قمح في الأرض، لتخرج سبع سنابل، وفي كل سنبلة مئة حبة كما في الآية الكريمة (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ۗ والله يضاعف لمن يشاء ۗ والله واسع عليم) .

ذكر بعض المفسرين أنها نزلت في صدقة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان – رضي الله عنهما – وذلك أن رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – لما حث الناس على الإنفاق حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك، فجاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم فقال: يا رسول الله كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها لربي، فقال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم:” بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت”. وجاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – فقال عبد الرحمن بن سمرة – راوي الحديث – فرأيته صلّى الله عليه وسلّم يدخل يده فيها ويقلبها ويقول:” ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم. اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان”.

نزول هذه الآية الكريمة في ” شأن صدقة هذين الصحابيين الجليلين لا يمنع من شمولهما لكل من نهج نهجهما، وبذل من ماله في سبيل الله” كما جاء في التفسير الوسيط للطنطاوي. وهي دعوة للبذل والعطاء والإنفاق في وجوه الخير، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء.

صدقةٌ يتبعها أذى

بعد أن ذكر الله أجر البذل والإنفاق في سبيله، والأجور المضاعفة حتى سبعمئة ضعف وأكثر، يأتي تنبيه غاية في الأهمية، كي لا تذهب حسنات وأجور الإنفاق هباءّ منثوراً بسبب علل وأمراض تُبتلى بها بعض القلوب، مثل مرض المنّ.

يوجهنا القرآن وقت البذل والإنفاق أن نتبع ذلك بقول حسن طيب للسائل والمحروم والفقير والمسكين، لا نجرحه ولا نمن بصدقتنا عليه، كما يروي الفاروق عمر – رضي الله عنه – قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم:” إذا سأل السائل، فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها، ثم ردوا عليه بوقار ولين، أو ببذل يسير أو رد جميل فقد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرون صنيعكم فيما خولكم الله تعالى”.

إن الصدقة المصحوبة بالمنّ والأذى، تعمل عملها المؤثر السيء في النفس، فتكسرها وتزيدها عذاباً وألماً فوق ألم وعذاب الحرمان. الصدقة تعلمنا أهمية حفظ الكرامة البشرية، وأنها مقدمة على الحاجات الإنسانية، وأهمية الستر على السائل، وعدم الإعلان عن سوء حاله أمام الغير، فلا يجب أن تجتمع المذلة مع الفقر عند المحتاج، خاصة أن الهدف من الصدقات والإنفاق على المحتاجين، هي سد الحاجات ومنع وقوعهم في مواقف الإذلال، وإبقاء وتعزيز العلاقات والصلات بين المؤمنين، الأغنياء منهم والفقراء. 

الشيطان يعدكم الفقر

بعد بيان أهمية وفضل الصدقات، أو البذل والإنفاق في سبيل الله، يأتي تنبيه آخر مهم، هو ذاك الشعور الذي يبثه الشيطان بالنفس الباذلة أو المنفقة. شعور التخويف من الفقر، خاصة أن المال زينة هذه الحياة الدنيا، التي تجد النفس البشرية تحرص عليه وتسعى إليه وتبذل الجهد والوقت لنيله والمحافظة عليه. ومن هنا صار المال من نقاط ضعف الإنسان، وبسبب هذا الضعف، يجد الشيطان من خلاله منفذاً للتسلل إلى النفس الإنسانية، ويجد باباً سهلاً للدخول إلى تلك النفس، والقيام بأعمال الوسوسة والتخويف والتهويل من مستقبل مظلم أو غير معروف، إن استمر حال الإنفاق – أو إن صح التعبير- استمر الإنسان في بذل المال هنا وهناك وعلى هذا وذاك في وجوه الخير ومنفعة الآخرين، على شكل صدقات أو زكوات أو هبات أو غيرها.

الشيطان لا يهمه الصرف ولو بإسراف في الشر أو الحرام أو فيما لا يُرجى من ورائه نفعاً، بل تجد الشيطان يحث ويشجع ويزين صرف المال في تلك الوجوه. لكن في وجوه الخير، والبر والإحسان، وكل ما يرضي الله تعالى، فإنه يقعد للإنسان كل مقعد، يخوفه بالفقر المنتظر أو القريب القادم !

عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم “: إن للشيطان للمّة بابن آدم، وللمَلَك لمّة، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمّة المَلَك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان.” ثم قرأ ) الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ).

الآية كما لو أنها تقول ” إياكم أن تتبعوا عدوكم الشيطان الذي يأمركم بالإمساك، كما في تفسير السعدي، ويخوفكم بالفقر والحاجة إذا أنفقتم وليس هذا نصحاً لكم، بل هذا غاية الغش ( إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير).