لقد كان الفقه في بداية أمره يهدف إلى البحث عن (الترجيح) بين مختلف الروايات والأقوال..ولكن الظروف المتغيرة كانت تثير أسئلة وقضايا جديدة، فبدأ الفقهاء يستخرجون أحكامًا جديدة بناء على الأحكام المعروفة السابقة ..وهكذا بدأ عهد جديد في تاريخ الفقه: عهد (التخريج)..

إن الاعتماد على أسلوب (التخريج) في تدوين الشئون القانونية والمعاملات كان صحيحًا لأن الأسئلة والقضايا المستجدة تثور باستمرار في المعاملات والقوانين ولا مناص من اللجوء إلى القياس والاجتهاد لحلها..أما توسيع قاعدة التخريج حتى شملت العبادات فكان – من وجهة نظرنا – خطأ اجتهاديًا أحال العبادات إلى ( فن ).. وكانت النتيجة أن أصبح الدين فنًا معقدًا لا يعرفه أو يجيده إلا خبير الفقه.

بينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن الدين الذي جاء به سهل ميسور: “بعثت بالحنيفية السمحة”.. وعكف الفقهاء على التفريعات في مسائل العبادة تمامًا كما يحدث للفنون من تفريعات وتحديث ومنها التعمقات في كل فن وهذا ما أقبل عليه أكثر الفقهاء، و من الفقهاء من أكثر القيل والقال في أصول الفقه، فاستقصى وأجاب وعرف وقسم.

وقد أدى هذا النهج إلى الخوض في مسائل تعبدية لم تكن معهودة في عهد الصحابة الكرام .. فحين وصل الإمام الشافعي رحمه الله إلى الكوفة أول مرة، لم يستسغ في المسجد صلاة أحد الشباب، فقال له: “أحسن الصلاة حتى لا يعذب الله وجهك الجميل في النار “، فرد عليه الشاب قائلاً: إنني أصلي في المسجد منذ خمس عشرة سنة أمام محمد بن حسن وأبي يوسف، ولكنهما لم يقولا لي شيئًا وأنت تعيب على صلاتي ..وكان الإمامان متواجدين في ذلك الوقت خارج المسجد ، فتوجه الشاب إليهما وسألهما: هل رأيتما فسادًا في صلاتي ؟، فأجاباه قائلين: لا والله!..فأخبرهما الشاب أن شخصًا بالمسجد قد اعترض على صلاته.. فقالا له: اذهب إليه واسأله: كيف تدخل في الصلاة ، فعاد الشاب إلى الإمام الشافعي وسأله:”يا من عاب على صلاتي يِمَ تدخل في الصلاة؟ ” ، فأجابه الشافعي:”بفرضين وسنة ” ..ورجع الشاب وأخبر الإمامين برد الشافعي فقالا: إنه شخص له باع في العلم ، ثم أرسلا الشاب يسأل الشافعي مرة أخرى: ما الفرضان والسنة: فأجاب الشافعي: إن الفرض الأول هو النية والآخر تكبيرة الإحرام ، أما السنة فهي رفع اليدين”..

إنه لو كان الأمر يتعلق بصحابين من صحابة النبي الكريم لما دار النقاش بهذا الأسلوب من الأسئلة والأجوبة.

يروى الفضل بن موسى أن المحدث المشهور الأعمش مرض ذات مرة فذهب أبو حنيفة لعيادته ومعه الفضل بن موسى.. وقال أبو حنيفة للأعمش: ” يا أبا أحمد، لولا التثقيل عليك لوددت في عيادتك “، فقال الأعمش: “والله إنك علي لثقيل وأنت في بيتك فكيف إذا دخلت علي “.. وعقب الخروج قال أبو حنيفة للفضل: “إن الأعمش لم يصم رمضان قط ولم يغتسل من جنابة ” (وكان الأعمش يرى الماء من الماء ويتسحر على حديث حذيفة )..

وقال أبو حنيفة هذا الكلام الخطير لمجرد أن الأعمش كان يخالفه في مسألتي السحور والاغتسال.. إنه لمن المستبعد أن نتوقع من صحابي أن يصدر أحكامًا من هذا النوع لمجرد الاختلاف في مسائل فرعية – وهذا مع إجلالنا الكامل وثقتنا في شخصية أبي حنيفة-!!

وقد ترتب على الانغماس في هذا النوع من المباحث والمسائل أن ظهر إلى الوجود (فن) كان يجهله الصحابة الكرام فلم يكن أحد منهم يدري أن ” الوضوء يشمل (4) من الفرائض، و(13) من السنن و (8) من المستحبات “..

إن المعايير ( الفنية ) التي اختلقها الفقه لعلم الدين قد أدت في بعض الأحايين إلى ظهور أشياء غريبة جدًا..ومن نماذج هذه الأشياء قول أبي حنيفة للإمام الأوزاعي:”لولا فضل الصحبة (يقصد صحبة النبي) لقلت أن علقمة أفقه من عبد الله بن عمر”..ما كان مثل هذا الخاطر ليجول في عقل أبي حنيفة لولا ظنه أن عبدالله بن عمر متخلف عن علقمة في الفن الذي راج في عصر أبي حنيفة باسم ( الفقه ).

وهذه العقلية قد ظهرت في بعض الأحيان على شكل أكثر جرأة ، فعلى سبيل المثال كان (الضحاك ) يكره ” المسك ” ، فقيل له إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يتطيبون بالمسك فرد الضحاك قائلاً:” نحن أعلم منهم .

لقد كان الصحابة الكرام يتحاشون الرد على الأسئلة وكانوا يثبطون الأسئلة الجديدة.. ومن أمثلة ذلك رواية خارجة بن زيد بن ثابت: “كان زيد سئل عن شيء، قال:هل وقع؟فإن قالوا له: لم يقع، لم يخبرهم.. وإن قالوا: قد وقع، أخبرهم”..

وعن مسروق قال: كنت أمشي مع أبي بن كعب فقال له رجل يا عماه كذا وكذلك..فقال يا ابن أخي أكان هذا؟ قال:لا ، قال: فأعفنا حتى يكون “.

أما حين ازدهر فن الفقه ظهر أناس يختلقون أسئلة فرعية ويجهدون أنفسهم للحصول على الردود عليها ، وعلى سبيل المثال:” سئل الإمام خجندي رحمه الله عن رجل شافعي المذهب ترك الصلاة سنة أو سنتين ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة النعمان: كيف يجب عليه القضاء ، أيقضيها على مذهب الشافعي أو على مذهب أبي حنيفة؟”.

إن هذه الأشياء كانت منعدمة ومجهولة زمن الصحابة الكرام، ولو أن سؤالاً ، كالسؤال الآنف الذكر، طرح على أحد الصحابة للعن السائل ووبخه قائلاً:هل تريد أن تحول دين محمد إلى اليهودية؟!!..ولكن وصل الأمر في القرون المتأخرة إلى تجرؤ الناس على الإكثار من هذه الأسئلة ورد الفقهاء عليها بكل افتخار لأنهم جعلوا من الفقه”أعظم علم” من علوم الإسلام.

 


المراجع:

– ابن القيم: أعلام الموقعين، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت: 1411هـ – 1991م

– ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله، إدارة الطباعة الأميرية، القاهرة.

– رحلة الإمام الشافعي بقلمه ورواية تلميذه الربيع بن سليمان الجيزي، المطبعة السلفية، القاهرة: 1350هـ

– ولي الله الدهلوي: حجة الله البالغة ج1، باب أسياب اختلاف الصحابة والتابعين في الفروع، دار الجيل ، ط1، بيروت، لبنان: 1426 هـ – 2005م