في هذه السطور نريد أن نبين كيف كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم مع الاعتكاف في رمضان.

لطالما دار سجال بين أصحاب النسك والعبادة، وأصحاب الدعوة ، كل طرف منهم يريد أن يثبت أنه أقرب إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولعل المراسلة التي حدثت بين الفضيل بن عياض ، وعبد الله بن المبارك من أشد ما جلَّى هذا السجال التاريخي بغض النظر عن صحتها. يشهد شهر رمضان تجدد هذا السجال، فأصحاب النسك والعبادة يقولون : كان الاعتكاف في رمضان سنة ثابتة له صلى الله عليه وسلم لم يتركها.

وأصحاب الدعوة يردون بأن حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت كلها جهادًا، وها هي غزوة بدر ، وفتح مكة كانا في رمضان، فأين الاعتكاف من ذلك؟

من المعروف أن صيام رمضان فرض في السنة الثانية من الهجرة، وعليه فقد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة رمضانات.

أول رمضان – السنة الثانية للهجرة

في السنة الثانية من الهجرة، وتحديدًا في السابع عشر من رمضان كانت غزوة بدر الكبرى. ولا يمكن الجزم هل كان صيام رمضان قد شُرع في هذه السنة أم في السنة التي تليها؟

وعلى كل ، فعلى اعتبار أن صيام رمضان قد شرع في هذه السنة، فمقتضى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف هذا العام.

فقد قال ابن إسحاق: “وكان فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر في عقب شهر رمضان أو في شوال”.[1]

ثاني رمضان- السنة الثالثة

لم تقع غزوات في هذه السنة، ولكن وقعت غزوة أحد في شهر شوال من هذه السنة،

واختلف كتاب السيرة في اليوم الذي وقعت فيه، وأشهر الأقوال أنها في يوم السبت للنصف من شوال ، ولم يرد حديث صحيح يحدد اليوم.[2]

وعليه فلم تحدث تعبئة ولا مواجهة في شهر رمضان في هذه السنة، وأقصى ما يمكن حصوله : أن تكون استخبارات النبي صلى الله عليه وسلم ومتابعته لتحرك قريش كانت في أواخر رمضان، وهذا لا يقتضي ترك الاعتكاف.

ثالث رمضان – السنة الرابعة

لم تتحدث كتب السيرة عن حدوث غزوات في هذا الشهر من السنة، وعليه فقد تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتكاف فيها.

رابع رمضان – السنة الخامسة

في هذه السنة كانت غزوة الخندق، وقد كانت في شوال.

وبعض العلماء يذهب إلى أن مقتضى ذلك أن الصحابة كانوا يحفرون الخندق في شهر رمضان؛ لأن حفره استغرق شهرا كاملًا، لكن يبدو أن هذا الاستنتاج ضعيف؛ فقد جاء في صحيح البخاري وصف القوم في أثناء الحفر بالتعب والجوع، ولم يأت ذكر للصيام أو الفطر، كما روى البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه، قال: جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم، وهم يقولون

نحن الذين بايعوا محمدا … على الإسلام ما بقينا أبدا

قال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يجيبهم:

«اللهم إنه لا خير إلا خير الآخره … فبارك في الأنصار والمهاجره»

قال: يؤتون بملء كفي من الشعير، فيصنع لهم بإهالة سنخة، توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق، ولها ريح منتن”[3].

وأصرح من ذلك ، الحديث الذي رواه  البخاري بعد ذلك، وفيه صنع جابر طعاما للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد ذكر البخاري تفاصيل هذا الطعام، ولم يتعرض لصوم ولا لفطر ولا لرمضان.[4]

خامس رمضان- السنة السادسة

لم تتحدث كتب السيرة عن حدوث غزوات في هذا الشهر من السنة، وعليه فقد تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتكاف فيها.

سادس رمضان- السنة السابعة

لم تتحدث كتب السيرة عن حدوث غزوات في هذا الشهر من السنة، وعليه فقد تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتكاف فيها.

سابع رمضان- السنة الثامنة

في هذه السنة كان فتح مكة، ففي صحيح البخاري بسنده عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن ابن عباس، أخبره: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان»[5].

و مقتضى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف هذا العام.

ثامن رمضان – السنة التاسعة

يوجد احتمال ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم لم يتمكن من الاعتكاف في هذا العام؛ لانشغاله بغزوة تبوك؛ وذلك على اعتبار عودته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من هذه الغزوة في شهر رمضان.

قال ابن إسحاق: وقدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المدينة من تبوك في رمضان.[6]

وحتى مع وجود هذا الاحتمال غير المؤكد، فقد اعتكف صلى الله عليه وسلم العام الذي توفي فيه عشرين يوما، عشرا قضاء عن العام الذي قبله، وعشرا عن العام الحالي، فعن أبي بن كعب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ” كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فسافر سنة، فلم يعتكف، فلما كان العام المقبل، اعتكف عشرين يوما ” [7].

تاسع رمضان – السنة العاشرة

لم تذكر كتب السيرة الصحيحة شيئا من المغازي ولا الأسفار في هذا العام، بل أكثر من ذلك ثبت أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف في هذا العام عشرين يوما لا عشرة أيام فقط.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم «يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما»[8].

قال ابن حجر :

قيل: السبب في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم علم بانقضاء أجله فأراد أن يستكثر من أعمال الخير؛ ليبين لأمته الاجتهاد في العمل إذا بلغوا أقصى العمل ليلقوا الله على خير أحوالهم.

وقيل: السبب فيه أن جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل رمضان مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين؛ فلذلك اعتكف قدر ما كان يعتكف مرتين.

وقال ابن العربي : يحتمل أن يكون سبب ذلك؛ أنه لما ترك الاعتكاف في العشر الأخير بسبب ما وقع من أزواجه واعتكف بدله عشرا من شوال اعتكف في العام الذي يليه عشرين ليتحقق قضاء العشر في رمضان .

وأقوى من ذلك أنه إنما اعتكف في ذلك العام عشرين؛ لأنه كان العام الذي قبله مسافرا.[9]

الخلاصة : أنه لم يثبت بطريق صحيح أنه سافر في رمضان إلا في غزوة بدر وفتح مكة.[10]

وثبت بهذا المسح الاستقرائي أن النبي صلى الله عليه وسلم مع الاعتكاف في رمضان  كان سنة ثابتة دائمة صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، وأنه كان لمَّا يفوته ذلك بسبب السفر أو غيره ، كان يقضيه في شوال.

وأنه صلى الله عليه وسلم كان في أول الأمر يعتكف العشر الأوسط يلتمس ليلة القدر، ثم تبين له أنها في العشر الأخير، فداوم على اعتكافه فيها حتى لحق بربه عز وجل.[11]


[1] سيرة ابن هشام ت السقا (2/ 43)

[2] -السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية (2/ 378)

[3] – صحيح البخاري، حديث رقم (4100)

[4] -صحيح البخاري، حديث رقم (4101)

[5] -صحيح البخاري (5/ 145)

[6]– زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 436)، وانظر : فتح الباري لابن حجر (9/ 46).

[7] –  حديث صحيح .رواه أحمد، مسند أحمد ط الرسالة (35/ 199)، وأخرجه ابن ماجه (1770). وانظر : فتح الباري لابن حجر (4/ 285)

[8] – رواه البخاري، رقم (2044)

[9]– فتح الباري لابن حجر (4/ 285)

[10] – فتح الباري لابن حجر (4/ 197). عن عمر بن الخطاب أنه قال: “غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوتين في شهر رمضان: يوم بدر، ويوم الفتح، فأفطرنا فيهما” وهذا الحديث مختلف في تصحيحه وتضعيفه، صححه الأرنؤط، وضعفه الألباني.

[11] – صحيح مسلم، رقم 213 – (1167) (2/ 824)