ظل ممتنعا عن الصلاة لا جحودا لفرضيتها ولا تكاسلا عن أدائها بل لظن خاطئ وهو عدم التفريق بين ما يوجب الغسل وما يوجب الوضوء وبقي مدة طويلة من عمره دون أن يصلي فكرت كم أضاع على نفسه من فرص لتنزل الرحمات ورفعة الدرجات وزيادة الإيمان كم أضاع على نفسه خيرا كثيرا بسبب فكرة خاطئة يمكن أن تزال ويتحرر من قيدها بسؤال يقدمه إلى أقرب إمام مسجد.

كم حرمنا الحياء من خير كثير وفرص متاحة وتسبب في بقائنا في مؤخرة الصفوف واستمرارنا في ارتكاب أخطاء ما كان أغنانا عن الوقوع فيها وقد مدحت عائشة رضي الله عنها نساء الأنصار بأنهن جمعن بين الحياء والسؤال عما يعنيهن من أمور الدين وإن كان السؤال يتعلق بأخص خصوصيات المرأة وأكثر ما تستحي من ذكره.

سَأَلَتْ أسماء [بنت شَكَل] رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ عَنِ الْغُسْلِ مِنَ الْمَحِيضِ ، فَقَالَ : تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا ، وَسِدْرَهَا ، فَتَطَهَّرُ ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ ، أَوْ تُبْلِغُ فِي الطُّهُورِ ، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا ، فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا ، حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا ، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً [قطعة من قطن أو صوف مبللة بالمسك] ، فَتَطَهَّرُ بِهَا , قَالَتْ أَسْمَاءُ : كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا ؟ قَالَ : سُبْحَانَ اللهِ ، تَطَهَّرِي بِهَا [وفي رواية واستتر بثوب ], قَالَتْ عَائِشَةُ, كَأَنَّهَا تُخْفِي ذَلِكَ : تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ ، قَالَتْ : وَسَأَلَتْهُ عَنِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ ، فَقَالَ : تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا ، فَتَطَهَّرُ ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ ، أَوْ تُبْلِغُ فِي الطُّهُورِ ، حَتَّى تَصُبَّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهَا ، فَتَدْلُكُهُ حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا [أصول الشعر] ، ثُمَّ تُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جَسَدِهَا , فَقَالَتْ عَائِشَةُ : نِعْمَ النِّسَاءُ كُنَّ نِسَاءُ الأَنْصَارِ ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ.[ سنن ابن ماجة] لم تفهم أسماء ماذا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تطهري بها فسألت وكان مراده صلى الله عليه وسلم أن تنظف بقطعة القماش المبللة بالمسك  محل خروج دم الحيض والمواضع التي أصابها.

من الناس من يستكثر على المسلم أن يبحث عن حكم الله في أموره الخاصة والعامة والصغيرة والكبيرة ويرى أن هذا تشددا وتقييدا لحركة الحياة ومنهم من يغيب عنه أن مساحة العفو (الأمور المباحة) أوسع من دائرة الحرام يستغرب هؤلاء من كثرة أسئلة الناس عما يحل لهم فعله وما يجب عليهم تركه ولا يستغربون من الحكم بالخروج عن حدود الوطنية لمن يحمل جنسية بلد معين لكنه يُعلن أو يُسِر أنه لن يلتزم بما صدر وسيصدر من قوانين هذه الدولة  وسيعمل على خرقها ما أمكنه العمل ،الدول الحديثه لا تقبل هذا التوجه من مواطنيها ويريد منا هؤلاء ان نتصرف وفق اي مرجعية الا المرجعية الشرعية.

كيف نقبل من إنسان يعلن إسلامه وينظر إلى تعليمات الإسلام على أنها قيد شديد الوطأة على رقبته يحد من حريته ويقف عائقا ضد إبداعه ؟

والمتأمل في العصر الحديث يجد الكثير من التصرفات التي يحتاج الناس إلى معرفة حكم الدين فيها بل إن حرص الإنسان على الاستقامة يدفعه إلى معرفة حكم الله فيما يفعل ويترك حتى لا يقع في محذور ومن ثم فالحياة تدفعه إلى عدد غير محدود من الأسئلة  بالإضافة إلى مَعَلم آخر مهم وهو كلما اتسع عقل الإنسان كلما  كثرت أسئلته.

فتح الإسلام باب السؤال على مصراعيه وسجل كتابه الكريم عدة أسئلة ربما يخشى كثيرون من البوح بها بل حتى الاقتراب من حماها.

من ذلك قول موسى عليه السلام {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] وقول الخليل عليه السلام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]

وكانت الأسئلة الشائكة تدور في أذهان الصحابة رضوان الله عليهم حتى قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّا نَجِدُ فِى أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ « وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ ». قَالُوا نَعَمْ. قَالَ « ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ ».[ صحيح مسلم]

في المفتي: حتى تخرج الفتوى أقرب ما تكون إلى حكم الله :

1-كم من أناس لا تنقصهم الدراية العلمية ولا الخبرة بمقاصد العلماء لكنهم في حالة غياب تام عن الواقع ومدى ما وصل إليه التردي الأخلاقي في بعض المجتمعات وما يملكه الشباب من إدراك ووعي وقدرة على الوصول إلى مقصودهم وإن كان ينقصهم تزكية القلب وصقل المواهب، بين إدراك لهذا وغياب لذاك تخرج فتاوى تجريئ السفهاء من أصحاب الأقلام والألسن حتى قال قائلهم:” افت يا مفتي يا صاحب الدار نزرع قثاء ولا خيار”.

2-من أهم الشروط التي ينبغي أن تتوافر فيمن يفتي بجانب العلم الشرعي التواصل مع الناس للوقوف على أعرافهم والاطلاع على قرارت المجامع الدولية للإفتاء والتي صارت بمرور الزمن بمثابة العرف المعمول به ،والذكاء الذي يحول دون خداع المفتي  واستنطاقه بما يريد المستفتي.

3-ويجب على المفتي أن يوجه السائل إلى ما ينفعه ومن هذا القبيل جواب الرسول – صلى الله عليه وسلم – لسائله عن الساعة أى القيامة بقوله:” ماذا أعددت لها؟” [صحيح البخاري]وجهه بهذا الجواب إلى ما ينبغى عمله والاستعداد به.

4-وعلى المفتي أن يتأكد من فهم المستفتي للجواب وأنه لم يبق في ذهنه نقطة غير واضحة في هذه المسألة.

5-وأن يراقب الله تعالى وحده ،بعض أهل الفتوى يغازل الجماهير ولهم سطوة ربما تفوق سطوة السلطان وقد نقل عن أحد أهل العلم:” إذا عاديت السلطان فأنت بطل وإذا عاديت الجماهير اتهموك بالزندقة”.

وقد يستغرب البعض من وجود أفراد في لجان الفتوى أو في المجامع الفقهية تختلف تخصصاتهم العلمية عن التخصصات الشرعية ووجودهم يكفل لأهل الاختصاص الشرعي القدرة على رؤية المسألة من أكثر من زاوية ومن ثم القدرة على إصدار الحكم المناسب.

في الفتوى: كثيرا ما تحتاج الفتوى في صياغتها إلى مسحة وعظية تحمل الترغيب والترهيب لكننا نجد بعض الفتاوى  تنص على الحكم الشرعي بشكل يشبه القوانين الرياضية وينبغي على المفتي أن يقدم البديل كما يجتهد في اختيار  مفرداته  ويحسن صياغتها  حتى لا تُستغل استغلالا سيئا وتحتاج مع ذلك إلى عبارات بسيطه يفهمها من توجه إليه فهي أولا وأخيرا للمستفتي وليست للعلماء كما تحتاج من المفتي إلى مراعاة المآلات في وقت تتصاعد فيه وتيرة الحساسية بين أبناء الوطن الواحد.

خمسون أو أكثر؟؟!: وقد ثار جدال حول تخصيص مجموعة من الأشخاص بالرد على الفتاوى في بعض البلاد الإسلامية من مؤيد بدعوى أن فوضى الفتوى صارت عارمة وتدفع بالناس إلى الانسلاخ من الدين نظرا لتهافتها وتناقضها وعدم قيامها على أساس علمي.

ومن مانع لأن ذلك سيؤدي إلى تأميم الفتوى بحيث لا تخرج عن الإطار المرسوم لها سلفا وبين هؤلاء وهؤلاء تبقى أسئلة الناس حائرة لا يستطيع خمسون شخصا ولا خمسة آلاف أن يردوا عليها وتبقى هناك قضايا تحتاج إلى بحث طويل ومناقشات مستفيضه  وعلماء لهم قدم صدق يتناولون هذه القضايا التي يمكن أن نسميها قضايا أمة ،بالدرس والبحث بصبر وأناة بعيدا عن الكاميرات ووسائل الإعلام حتى يخرجوا بقرار يتوافق مع العلم الشرعي.

الأسود والقرود:يقول الأستاذ فهمي هويدي:”كانت هناك قرية في جمهوية السودان تقع إلى جوار أحد الغابات التي كان يعيش فيها ثلاثة أسود كانت تختطف أحد الأطفال بين الحين والآخر حين يستبد بها الجوع، ضاق سكان القرية بفعل الأسود وظلوا ينصبون لهم الكمائن حتى قتلوهم الواحد تلو الآخر وبعد أن حدث ذلك واطمأن الجميع إلى أن الأسود اختفوا إلى الأبد فوجئوا بجيوش من القردة تهبط من فوق أشجارالغابة الأمر الذي أحال  حياتهم إلى جحيم واضطرهم في نهاية المطاف إلى مغادرة القرية.

إن ساحة الفتوى تواجه المشكلة ذاتها حيث تكالبت ظروف عدة أدت إلى القضاء على أسود الساحة وشاء قدرنا أن نواجه بعد ذلك جيشا من القرود الذي لا حل له إلا بإعادة الأسود مرة أخرى لكي يؤدوا وظيفتهم في الحفاظ على كرامة الفتوى وحرمة الدين وينبغي أن نحتمل الثمن الذي يدفع لقاء ذلك ولا نضيق به”.

وربما كان السبيل إلى وقف نزيف الفتاوى هذه والحد من الفوضى التي أصابتها تيسير التعليم الديني لعموم الناس وإعداد المناهج الكفيلة بتكوين عالم مدرك للواقع متبحر في الشريعة بفروع علومها المختلفة مخلص يأتمنه الناس على دينهم وأسرارهم.