لا يخلو وجه إنسان من أن يقابل شاشة كل يوم، سواء في الكمبيوتر أو الفضائية أو أجهزة الهاتف النقال، ثورة جعلت الشاشة في وجه الجميع، غير أن التكنولوجيا ليست بريئة كل الوقت، والآلة دائما تحمل ثقافة وتحدث تغيرات في واقع الإنسان، غير أن بناء فلسفة للثورة التكنولوجية والاتصالية مازال في مراحله الأولى فسرعة التطورات والابتكارات لا تقابلها اجتهادات فلسفية وفكرية مماثلة.

وفي كتاب “الثورة الرابعة:كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني” لـ “لوتشيانو فلوريدي” الصادر عن عالم المعرفة في سبتمبر 2017، في (310) صفحة، محاولة للاقتراب من المعلوماتية فلسفيا، فقضية الكتاب الأساسية هي البحث في الكيفية التي يتأثر بها إدراك الإنسان لذاته في ظل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية، وكيف يُشكل الإنسان عالمه المعاصر ويتفاعل معه ، في ظل أن الأجيال الجديدة هي التي تعلم الأجيال القديمة كيف يتعاملون مع تكنولوجيا المعلومات، وتبدو ملامح الأزمة في أن كثرة المعلومات لا تقابلها حالة من النمو في الإدراكات المعرفية والفلسفية، لذا تصبح الإنسانية وكأنها تتناول وجبات أكبر من قدرة معدتها على هضمها، فالعلم والمعرفة لا يُصنعان بتراكم البيانات، ولكن لابد لهما من إطار وغاية وهدف، وهذا الأمر لا تصنعه إلا الفلسفة.

والحقيقة أن مناقشة هذه القضية من الزاوية الفلسفية يعد أمرا جديدا ومهما، فالواقع المعلوماتي مازال في طور التشكل والتطور وخلق التأثيرات، لذا فمن الصعب وضع فلسفة تساهم في فهم كلياته وانعكاساته، الأمر الآخر أن بعض المهتمين بالشأن الفلسفي مازالوا معتادين على النظر إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من المنظور الأداتي، أي أنها أداة لا تتجاوز إطارها المحدد، ومن ثم فربما يظنون أن الفلسفة غير معنية بالنظر إليها، غير أن المعلومات أصبحت قوة مؤثرة في المجتمعات تساهم بدرجة كبيرة في خلق واقع تلك المجتمعات وتشكيله، وتؤثر في إدراك الإنسان لذاته وللآخرين بصورة شديدة الاتساع والعمق وبلا هوادة.

الأطوار الأربع

كتاب “لوتشيانو” ينظر إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصال على أنها الثورة الرابعة في تاريخ الإنسان، وقد سبقتها ثلاث ثورات غيرت فهم الإنسان للكون، وكذلك فهم الإنسان لموقعه في ذلك العالم، فالثورة الأولى كانت في العالم (1543م) عندما نشر العالم الفلكي “كوبرنيكوس” أطروحته حول حركة الكواكب حول الشمس، حيث أزاحت تلك الأطروحة اعتقاد  البشر بأن الأرض هي مركز الكون، إذ بدت الأرض وفق هذه الأطروحة كوكبا صغيرا هشا في إطار مجموعة كبيرة من النجوم والكواكب.

أما الثورة الثانية، فكانت في العام (1859م) عندما نشر “تشارلز داروين” كتابه “أصل الأنواع ” حيث رأى أن جميع السلالات تطورت عبر آلاف السنين من أسلاف مشتركة عن طريق الانتخاب الطبيعي، ورغم عدم قدرة تلك الأطروحة  على الثبوت علميا، وتصادمها مع الرؤى الدينية، إلا أنها وضعت كلمة “تطور” بدلالات جديدة في العقل الإنساني، وأزاحت الأطروحة الإنسان من مركز البيولوجيا في المملكة الحيوانية.

أما الثورة الثالثة، فجاءت مع سجموند فرويد المتوفى عام (1939م)، حيث استطاع فوريد بأبحاثه في التحليل النفسي أن يزيح أفكار الفيلسوف الفرنسي “رينيه ديكارت” المتوفي (1650) خاصة مقولته الشهيرة “أنا أفكر إذن أنا موجود” بعدما احتلت الرؤية الديكارتية العقل الغربي عدة قرون، إذ كانت أطروحته فرويد تتحدث أن اللاشعور هو الذي يتحكم فعليا في الوعي، والحقيقة أن أطروحة فرويد كانت فلسفية أكثر من كونها علمية، إلا أنها نبهت العقل الإنساني إلى علوم الأعصاب.

أما الثورة الحالية المعلوماتية والتكنولوجية فتشير أن مكاننا المميزة في الكون يكمن في قدرات الإنسان العليا في التفكير، وهو ما يجعل مكانة الإنسان استثنائية في هذا الكون الواسع الرحيب، لذا فثورة المعلومات هي فرصة لبناء المستقبل في ظل اعتماد العالم شبه الكامل على تكنولوجيا المعلومات، ورغم هذا الانتشار والاتساع لها، إلا أنها لم يوازيها فهما فلسفيا مماثلا لاستيعاب تأثيرها، ومحاولة بناء أخلاق إنسانية متطورة تلاءم تلك الثورة ، فالفجوة بين المعلوماتية وبين الفلسفة تخلق مأزقا كبيرا للإنسانية؛ لأنه لن تكون هناك سياسات أفضل ما لم يكن هناك فهم أفضل..

ويلفت الكتاب الانتباه إلى حقيقة مهمة تعد أحد معالم طغيان تكنولوجيا المعلومات في واقع الإنسان المعاصر، وهي أن حوالي (70%) من ناتج الاقتصاديات الدول الصناعية السبع الكبرى في العالم يعتمد على السلع غير المرئية ذات الصلة بالمعلومات.

الذاكرة المتلاشية

في ظل الثورة المعلوماتية تتغلب الذاكرة على الذكاء، فضخامة حجم البيانات يتجاوز القدرات التخزينية، وهنا تتعرض الذاكرة في ظل تلك الثورة إلى الفقدان والتلاشي المستمر من خلال التعديل والحذف، فالذاكرة في ظل المعلوماتية شديدة الضعف كثيرة التطاير، ذاكرة تم بناؤها لإخضاعها للتحديث والتعديل الدائم، ونشير هنا أنه منذ سنوات كان عمر الوثيقة التي لم تعد مهجورة هو (45) يوما، وهذا يخلق حالة تماثل بين الذاكرة الرقمية والذاكرة في الثقافة  الشفهية، فالذاكرة الرقمية لا تحتفظ بالماضي لنستخدمه في المستقبل، ولكنها تجعل الإنسان يعيش في حاضر دائم، فالنسيان جزء مهم من عمليات بناء الذات، كما أن زيادة الذاكرة الرقمية للأشخاص تعني انخفاض حرية الفرد في بناء شخصيته أو تعريف نفسه في مجتمع الرقمنة، إذ تصبح شخصيتك هي ملفك على صفحتك على مواقع التواصل الاجتماعي .

ونشير هنا أن الذاكرة ليست سعة تخزين وكفاءة في إدارتها، ولكنها نتاج عملي فحص وتمحيص دقيق وواع يسمح لماض محدد ومنتقى بعناية لكي يترسب في أعماقها، لكن في ظل الرقمنة فتشير عبارة “احفظ المستند” إلى “استبدل المستند وفقا للتعديلات والتغيرات الجديدة” وهذا الحفظ في حقيقته هو نوع من المحو الكامل للماضي، وإعادة كتابة الماضي وفقا لمستجدات الحاضر، وبالتالي يختزل التأريخ في شعار “هنا والآن” وهذا يجعل الإنسان المعاصر أسيرا للحظة الراهنة، وهذا الأمر لا شك أنه خطر كارثي على ذاكرة البشرية التي ظلت تنقش فيها مسيرتها عبر آلاف مضت من السنين، لذا لم يكن غريبا أن تظهر مبادرات للحفاظ على الذاكرة الرقمية.

أون لايف Onlife

تكنولوجيا المعلومات تجعل الإنسان يفكر في العالم معلوماتيا من خلال وضع المفاهيم والتصورات عن ذلك العالم، ثم تدخل تعديلات على هذا العالم، ومن أهم ملامح تلك الفترة هي فكرة الحياة أون لايف Onlife، أي أن يكون الإنسان دائما في بيئة معلوماتية من خلال اتصال المستمر بتكنولوجيا المعلومات والاتصال سواء في الانترنت أو أجهزة الهاتف المحمول، وهذا الأمر له انعكاساته وتأثيراته الاجتماعية والثقافية؛ بل والسياسية والاقتصادية، حيث تصبح الفوارق في التحضر ذات معيار معلوماتي، وهذا يجعل الفوارق ليس بين الدول المتقدمة وبين الدول النامية، ولكن ينتقل إلى داخل المجتمعات في كل دولة، ليجعل طبقات وشرائح مجتمعية ذات اتصال دائم بتكنولوجيا الاتصال والمعلومات وآخرين لا يحصلون من تلك التكنولوجيا إلا على النذر اليسير.

وهنا يصبح الفقر والغني معلوماتيا، وهو ما يعمق الأزمة المجتمعية، لأن امتلاك مهارات التعامل والتميز في تكنولوجيا الاتصال والمعلومات يرتبط بمقدرته الاقتصادية في الأساس، وسينعكس ذلك أيضا في التعليم الذي بات أقل تماشيا مع الطفرات الكبرى في تكنولوجيا المعلومات والاتصال.

ويرى البعض أن الجيل الجديد في ظل الثورة الرابعة  يشهد حالة من الثرثرة العالية شديدة الضحالة، فهو جيل مفتون بالاصطناعي والزائف، جيلد متمركز حول ذاته التي جعلها محور وجوده، وقد انعكس على الهوية والإحساس بالحرية، فبعد أن كانت الحرية على الانترنت أن تبقى مجهولا، أصبحت في ظل التطورات التقنية من الصعب أن يتحقق ذلك، حيث إن قدرات أجهزة الهاتف وإمكانات المراقبة ستكشفك بسهولة كبيرة، وستحدد مكانك بدقة عالية، وستعرف من أنت حتى وإن اجتهدت في إخفاء نفسك، وهذه هي مشكلة كبيرة في أن تبقى Onlife، حيث تُخلق حالة عالية من الهوس بالذات والانشغال بها، ويمكن أن تُلاحظ بسهولة في الأماكن العامة من هوس الجيل الجديد في التقاط صورة “سيلفي” ، حيث تمتلئ هواتف الجيل الجديد بمئات الصورة التي التقطها لنفسه بصورة منتظمة تشبه الإدمان.