أخذ النخيل مكانة كبيرة لدى الإنسان منذ عهد بعيد ولا يزال يحتفظ بتلك المكانة حتى يوم الناس هذا نظراً لأهميته ومركزيته في الحياة ودلالاته المتعددة، فالنخيل يدلُّ على الشموخ والعزة والإباء والوفاء والإخلاص، وقد كان الشاعر أحمد شوقي (1868-1932م) صادقاً حين وصف النخلَ بأنه “ملكُ الرياض، وأمير الحقول، وطعامُ الفقير، وحلوَى الغني، وزادُ المسافر والمغترِب”. ولعل من آخر الكتب الصادر في هذا المجال كتاب “نخيل التمر في كتابات الرحالة الأوروبيين” الذي يُبحر بنا الباحث السوداني عبد العزيز عبد الغني من خلاله في تاريخ النخيل.

وقد دفعت المكانة التاريخية العظيمة والدلالات المتعددة التي حظي بها النخيل عبر التاريخ الكثيرَ من الكتاب والباحثين قديماً وحديثاً إلى الاعتناء بهذه الشجرة الطيبة الأصيلة التي لا يجوع أهل بيت دخلته ثمارها (1)، وفي كتابه “نخيل التمر في كتابات الرحالة الأوروبيين” يقدم لنا عبد العزيز عبد الغني آراء عددٍ وافرٍ من الرحالة الأوربيين الذين تجولوا في شبه الجزيرة العربية وتعرّفوا على نخيل التمر فيها عن كثب، حيث استعرض ملاحظات الرحالة الأوربيين عن التمور وبساتينها في موانئ الحجاز البحرية والبرية وأودية المدينة والقصيم والأحساء، كما عرّج على تاريخ التمور وبساتينها ومنتجاتها في البحرين وقطر والساحل العماني وعمان.

وفي إطار الحديث عن تاريخ النخيل ومكانته لا بد أن يقفز إلى ذهن القارئ سؤال حول موطن النخيل ومهده الأصلي، ونحن نعتقد أن هناك أدلة مختلفة تميط اللثام عن حقيقة تاريخية مفادها أن “نخيل التمر شرقي الأصل، عربي المهد، نجد خبره في المصادر الشرقية منذ زمن بعيد يعود إلى الحضارات السومرية والبابلية والفرعونية والسودانية وغيرها من حضارات الشرق القديم”.

ويبدو أن شجرة النخلة قد ظفرت بمكانة سامية في الفكر الديني اليهودي والنصراني وبقيت لها تلك المكانة أيضاً في الفكر الإسلامي، فقد ورد ذكر النخل في القرآن الكريم مرات عديدة: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} (الرحمان-11)، {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (الرحمان-68) ، {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}،( ق-10) و أوصانا النبي بأكل التمر وأثنى على شجرة النخيل، وهكذا ظلت النخلة شجرة مباركة لدى المسلمين لأمور عديدة، منها أنها شهدت خروج عيسى بن مريم عليه السلام إلى الدنيا، وكان رطبها أول زاد لابنة عمران بعد المخاض، بدليل قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}. ( مريم-25)

ومهما كتب الغربيون عن النخلة فإنها تبقى شرقية الأصل عربية المهد، إذ لم يعرفها الأوربيون إلا “حين التقى الشرق بهم حاملاً إليهم قبساً من حضارته وثقافاته وتجارة طيوبه وصنوف ثماره”، فأصبحوا يرون النخلة كرسومات على قاعات عروش بعض الأباطرة الأوربيين، ولكن استعصى عليهم نقلها لتوطينها في الغرب، إذ أبت النخلة أن تستوطن إلا صحاريها، ولهذا ظلت النخلة مع البعير تمثّل في التخيَّل الأوربي عنواناً للعربي وحضارته العريقة التي سطعت شمسها على الغرب قبل قرون عديدة.

النخيل في المملكة العربية السعودية

إن أي حديث عن نخيل التمر في شبه الجزيرة العربية لا بد أن تكون نخيل المملكة العربية السعودية جزءاً منه بلا شك، ولهذا فقد نالت بساتين النخيل في مدن وقرى السعودية حظاً وافراً من اهتمام الرحالة الأوربيين عكستها صفحات كتبهم التي دونوا فيها ملاحظاتهم عن تاريخ الجزيرة العربية ومدنها وقراها وسهولها وجبالها، فهذا الرحالة “جون لويس بور كهاردت” يحدثنا عن التمور في سوق جدة وأسعارها، فيقول إن التمر كان “يشكل الغذاء الرئيسي للطبقات الدنيا في المدينة المنورة وأن الفقراء ينتظرون موسم صرامه بشغف وسرور وابتهاج يعادل انتظار الأوربيين موسم قطف الكروم”، وفي المدينة المنورة وضواحيها أكثر من مائة صنف مختلف من تمور النخيل، وهناك أسماء عديدة منها: الجبلي والحلوة أو الحلية والبرني.

وفي إطار الحديث عن نخيل التمر في كتابات الرحالة الأوروبيين، يحدثنا “بور كهاردت” عن وادي ينبع المسكون بالنخيل الذي كان يغشاه الرحالة الأوروبيون أحياناً للاسترواح، وهو هنا يكشف عن وظيفة مهمة للنخيل أشار إليها الضابط الإنجليزي “جورج فورستر سادلير” حين قال إن بساتين النخيل لها وظيفة ترفيهية، “ففي ظلالها يجد الإنسان المرهق المتعب الترويح عن النفس والسلوى”، وقد برزت هذه الوظيفة في كتابات عدد من الرحالة الذين جاؤوا بعد “جورج فورستر سادلير”، منهم الجاسوس الفرنسي “ليون روش” الذي سمَّى نفسه عمر بن عبد الله.

وقد تحدث الرحالة الأوربيون عن نخيل مدن وقرى سعودية عديدة، فهذا الرحالة الفنلندي “جورج أوجست والين” الذي زار الجوف وقراها وتوصّل إلى أن “النخل هو قوام الزراعة في الجوف، فهو الأصل وكل ما عداه من مزروعات أخرى تناسب مناخ المنطقة لا يُعدُّ شيئاً مذكوراً”، في حين يحدثنا الرحالة “وليام جيفورد بالغريف” عن دور التمر في حياة العربي، “فهو الخبز الذي تجود به الأرض، وهو قوام حياتهم، هو مادة التجارة الرئيسية في بلادهم”.

أما الضابط الإنجليزي “سادلير”، فيحدثنا عن بساتين التمور في المنطقة من القصيم إلى الرياض، فيلقي الضوء على الدرعية التي كانت عامرة ببساتين النخيل العامرة الممتدة على مد البصر، ويعرف الرحالة “بالغريف” القصيم بالأرض الرملية المثمرة لأنها نشأت على آبار كثيرة المياه وكانت زراعة النخيل فيها هي الأساس، أما الرحالة “لويس بيلي” فيحدثنا عن الرياض التي تضفي عليها تخومها العامرة بالنخيل قدراً من الحيوية والجمال.

ولا يمكن أن ننسى الأحساء، فقد ذكر الاستخباراتي البريطاني “ويليام ريتشارد وليامسون” أنها اشتهرت بإنتاج أفخر أنواع التمور “التي على رأسها الخلاص التي يُقال إنها أجود تمور الأرض قاطبة”، وكانت الأحساء تعبئ “الخلاص” في أكياس وتصدره إلى أوروبا، أما الباحث الأمريكي “فريدريكو إس فيدال” فتعرض لموعد تلقيح النخيل ومراحل نمو الثمرة وعدد التمرات الموجودة في الرطل الواحد، وعدَّد الفوائد التي يسبغها النخل على الأحسائي، “فمنها غذاؤه، وعلف حيوانه، ومنها أخشاب البناء لمنازله ولصناعة منتوجات شجرية أخرى لمختلف أغراض الحياة”.  

بساتين النخيل في البحرين وقطر

وقد اهتم الرحالة الأوروبيون بالنخيل في البحرين، إذ كتب الرحالة “صموئيل زويمر” من مركزه في البحرين عن الحياة النباتية في البلاد العربية ووضع نخلة التمر كأهم منتج زراعي للأرض العربية، وقال إن “التمور في البلاد العربية هي مادة الغذاء الدائمة، وقلَّ أن تخلو منه أي وجبة في أيّ مائدة عربية”، وتعرض “زويمر” لفوائد النخيل وذكر صناعات ترتبط بالنخيل ومخرجاته واستعمالها، ففي البحرين “تُفتل حبال القوارب من ألياف النخيل، وأيضاً يُصنع من سعف النخيل نسيج جميل ناعم مجدول لمقابلة الاستخدامات المنزلية كافة”. 

أما الرحالة “بورشارت”، فكتب عن المنامة في البحرين وقال إنها تقع في وسط غني بمصادر المياه تزدهر فيها بساتين التمور، فتبدو تلك الجزيرة كأنها أرض صيغت من بساتين النخيل، والظاهر أن ازدهار بساتين التمور في البحرين قد دفع أهل المنامة إلى أن يتخذوا لهم بيوتاً من السعف تتداخل في غير انتظام من البيوت المبنية من الحجر.

و في خضم الحديث عن نخيل التمر في كتابات الرحالة الأوروبيين، نجد أن اهتمام الرحالة الأوربيين لم يقتصر على السعودية والبحرين بل تعدى إلى قطر، وقد ذكر المؤلف أن الرحالة “وليام جيفورد بالغريف” زار دولة قطر ونزل ضيفاً على أهلها وأقام فيها وشاهد مخازن مليئة بأكياس التمر المعد للبيع.

وقد وصف الرحالة “بالغريف” مدينة الريان بأنها ذات ماء عذب وفير وفيها بساتين نخل ولوز وكان الريُّ في البساتين يقوم على الساقية التقليدية، ويبدو أن بساتين النخيل في قطر قد هددتها الطواعين والأوبئة في فترة ما جرّاء بعض المزروعات التي جُلبت من الهند، ما دفع إلى الأمر بتدمير جميع بساتين قطر كإجراء وقائي ضد الطواعين والأوبئة التي حلت بالنخيل، وعندما عادت المياه إلى مجاريها بدأ تعمير البساتين من جديد في قطر.  

النخيل في الساحل العماني وعمان

يبدو أن نخيل الساحل العماني وعمان حظي بعناية كبيرة من الرحالة الأوربيين، فقد أفرد المؤلف الفصل الرابع والأخير كاملاً للحديث عن تاريخ النخيل من رأس الخيمة إلى أبوظبي ثم “ليوا” و”البريمي” و”مسقط” و”ساحل الباطنة”، وحشد في صفحات طوال آراء عددٍ وافرٍ من الرحالة بخصوص النخيل في الساحل العماني وعمان، حيث ذكر الضابط الإنجليزي “صاموئيل باريت مايلز” أن الشارقة كانت فيها بساتين نخل شاسعة تنتج تمراً يكفي الاستهلاك المحلي، وأن النخل كان خبز عامة الشعب العماني ويحكم نمط حياة العديد من العمانيين ويصبغ أسلوب حياتهم الاقتصادية.

وتعرض “جيمس سلك بكنغهام” لأسلوب كسب العيش في الشارقة، فقال إن أهلها كانوا “يعملون صيفاً على قواربهم في صيد اللؤلؤ في مياه البحرين، أما حين يحلُّ الشتاء ويتعطل هذا العمل فإنهم يفلحون أرضهم ويحصلون على قوتهم مما تنتجها من تمور”، ويحدثنا “المساح بركس” عن حدائق النخيل في رأس الخيمة، في حين يقدم “ليوتينانت صموئيل هنيل” إحصاء لعدد النخيل في أرض القواسم، ويذكر “بالغريف” أن بيوت الشارقة أقيمت من القرميد الأحمر أو الحجر مع وجود أكواخ من الخشب وسعف النخيل.

أما عالم النبات الفرنسي “ريمي مارتن أوشير إيلوي”، فقال إن في قلب عمان غابة نخيل شاسعة، ومن الأدلة التي قدمها على ذلك أن ظلال النخيل كانت دربه وعندما تتلاشى عن بصره تتبدَّى له أشجار الفاكهة المختلفة الأشكال والألوان، ويرى “جيمس سلك بكنغهام” أن أودية عمان كانت عامرة بنخيل يسهم في حركة التجارة والاقتصاد ما أدى إلى تقاطر السفن الروسية على ميناء عمان مع نهاية القرن التاسع عشر، وقد سجّل مبعوث روسي أن التجارة التي كان يتم تصديرها من مسقط يتألف معظمها من التمور.

وضع لمؤلف في ختام هذا الكتاب اللطيف ملحقاً مهماً يتضمن مجموعة من أقوال اللغويين في النخيل، وفصلاً في مجمل ترتيب حمل النخلة، ونُعوت سعف النخيل وكربه وقلبته، بالإضافة إلى نُعوت النخلة في طولها وقصرها، وبهذا يكون الباحث السوداني عبد العزيز عبد الغني قد نجح في تقديم صورة عن جغرافية التمور وبساتينها ومنتوجاتها في الحضارة العربية.


1- اعتنى العرب والمسلمون بالنخيل فأكثروا من التأليف حوله ولكن كثيراً من تلك المؤلفات فُقِدَ ولم يصل إلينا للأسف الشديد، ومنها على سبيل المثال: كتاب النخلة بأبي عمر الشيباني (ت: 209 هـ)، وكتاب التمر لأبي زيد الأنصاري (ت: 215 هـ)، وكتاب صفة النخل لابن الأعربي (ت: 216)، ومن أبرز الكتب الموجودة حالياً كتاب النخلة لأبي حاتم السجستاني (ت: 255 هـ)، الذي قام الدكتور حاتم صالح الضامن بتحقيقه وصدرت طبعته الأولى عن دار البشائر الإسلامية عام 2002.