ونحن على مشارف نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، لازال العالم الإسلامي بمختلف أطيافه وألوانه، يلعب دور المراقب لِما يجري ويحدث دون أي فاعلية تُذكر أو دينامية تُستطر، فالآخر يفعل ما يشاء وكيف يشاء، ويخترع ويجرب كيف يريد، لا يثنيه أحد ولا يصرفه صارف، فلما كان الفكر الإسلامي راسما لخارطة طريق الأمم، صار فقط يرصد لنا ما تقترفه أيدي الآخرين مع الإنكار المستهلك، أو ما يكتشفه الآخر مع الإشادة به، أوالتوبيخ لِأفراد الأمة لما فاتهم من الِاكتشاف.

 

وهذا لا يعدو إلا تعبيرا عن ملامح انهيارٍ ووهن في صف الفكر الإسلامي المعاصر، فلما كتب الآخر نهاية التاريخ أيقنّا أن للتاريخ نهاية، ولم ندر أن هذا الأمر هو تحصيل حاصل في فكرنا الإسلامي، لأنه سبق صاحب نهاية التاريخ إلى التنبؤِ لهذا، وهو صريح ما جاء في مستهل سورة التكوير من الكتاب العزيز: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ…»، فهذا تنبؤٌ صريح وواضح إلى نهاية الحياة على وجه الأرض، ومن ثم نهاية التاريخ البشري في هذا الكوكب، وبدايته في مكان آخر تحدَّث القرآن عن ماهيته فليرجع إليه.

لا أن صاحب كتاب نهاية التاريخ وإن اتحد تنبؤه مع القرآن في أن للتاريخ نهاية، فإن القرآن يختلف معه في شاكلة هذه النهاية التي لا يدري منها صاحب نهاية التاريخ إلا اختفاء العنصر البشري عن وجه الأرض، وهذا أمر طبيعي لقصوره عن إدراك المزيد، وهنا على الفكر الإسلامي المعاصر إثبات أن العنصر البشري مستمر ولو بعد نهاية التاريخ، فهناك بداية لتاريخ جديد للبشرية بعد مماتهم هو أطول من هذا الذي انتهى بل لا نهاية له.

لكن إثبات ذلك ينبغي أن يكون بدليل علمي مادي يعقله هؤلاء، فهل يستطيع الفكر الإسلامي المعاصر فعل ذلك، وهو لازال يناقش إلى يومنا هذا شرعية الِاحتفال بالمولد النبوي من عدمها، وتوحيد رؤية الهلال من عدمها، ولماذا اقتتل الصحابة؟ ومن قتل الحسين؟ وغير ذلك مما بدا لنا فساءنا.

كما أننا هلّلنا بصاحب صِدام الحضارات، وكأنه جاء بأمر لم يسبق إليه، ودُرِّس كتابه في جامعات العالم الإسلامي، وأهملنا التنبيه النبوي لهذا الأمر منذ قرون خلت، وهو يخاطب جموع الناس في خطبة الوداع قائلا: “ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود ولا أصفر ولا أحمر وفي هذا إشارة إلى أن الإسلام رسالة إلى جميع الحضارات، فخوف اصطدامها تم التنبيه إلى ذلك في هذه الخطبة الأخيرة، إطفاءً لنار العنصرية وإذكاء لروح التسامح والود والسلام، كما فُعِل بالمهاجرين والأنصار.

وفي خضم ظهور الروبوتيك والدُّمى التي تلعب دور الزوجة، هل بدأ الفكر الإسلامي المعاصر في إثبات أنه الأجدر بالِالتفاف حوله بوضع الشباب المسلم في صلب المسؤولية، بدل اللجوء إلى مستنقع التكنولوجيا، إن سوء تدبير الخلاف في الفكر الإسلامي المعاصر، وملامح البعد عن السياق العالمي الحديث، والوضع الغير المحسود للفقيه والعالم، لَيكشف عن الحالة المزرية التي وصل إليها الفكر الإسلامي المعاصر، فقد بدأت ترتفع أصوات مطالبة بإعادة تأويل بعض النصوص القطعية، والغريب أن قطعي الثبوت والدلالة لا يحتاج إلى تأويل، بل يحتاج إلى إيمان أو جحود، وأصوات أخرى تدَّعي العلم والفهم تُنادي بالِاستخفاف بما في كتب السنة من الحديث النبوي الشريف، وفي النهاية ظهور آراء فقهية شاذة، والتي أفردنا لها بحثا ينظر هناك.

من هنا يمكن للناظر الحكم على ما آل إليه الفكر الإسلامي المعاصر من عجزه عن مقارعة الفكر الحديث، وذلك بالِاعتماد على نفس الأدوات التي أبدعها علماء الإسلام في إحدى العصور الماضية، والتي دعت الضرورة إليها انْسجاما مع فكر وقتهم، أما اليوم فيقف الفكر الإسلامي المعاصر إما ناقدا كنقده للِاستشراق سابقا، أو داعما كدعمه لما تمليه بعض قوانين الأمم المتحدة المجحفة، أو مبتسما لآخر الِاختراعات والِابتكارات، وفي مقابل ذلك كله فهو قاصر عن المضي قدما نحو التحديث والِانسجام مع الواقع الجديد، بدل الِاقتصار والتمادي في استهلاك القديم دون تخطِّيه كالغزالي وابن رشد وابن خلدون وابن تيمية وغيرهم ممن وقفنا على أفكارهم وجهودهم التي كانت منسجمة مع أعصارهم، دون امتلاك الشجاعة لتجاوزهم كما تجاوزوا أسلافهم في ذلك.

فإن كان شيء يشين الفكر الإسلامي المعاصر فهو ما ذكرت آنفا من الوقوف على ما قدمه السابق دون تجاوزه، وأقصد هنا الِاستفادة منه بعد الِاطلاع عليه دون التوقف عنده، بحيث يصير عقبة كؤودا أمام اللحاق بالواقع الحديث، وما ذكرته هو الذي لازال يتخبط فيه الفكر الإسلامي المعاصر.

الصحوة المقاصدية في الفكر الإسلامي المعاصر

في غمرات هذا التدافع والتنافي والتجاذب والِاستقطاب الذي تعرفه الحياة الثقافية والفكرية في العالم الإسلامي اليوم، وأعني بذلك الصراع المذهبي المُفضي إلى الصراع الميداني المُنتهي بتداعي الأمم الأخرى على الأمة الإسلامية، وَجدَ الفكر الإسلامي المعاصر نفسه بين أمواج كالجبال، تتجسد فيما خلفه تاريخ الأمة من عقائد وأفكار بعضها يوافق الوحيَيْن، وكثيرٌ منها أُسند إليهما عن قصد أو جهل دون تحقيق أو تنقيح، والتي صارت فيما بعد أصولا كالصخر يصعب نقدها بلْهَ نقضها، إذ ساهمت بشكل مهم في بُطء حركة النمو لدى الأمة إذا استثنينا بعض البلدان.

ولقد رصدنا في هذين العقدين الأخيرين بزوغ صحوة جديدة تُعنى بمقاصد التراث الإسلامي، وهي اتجاه لا يروم القفز على نصوص الشرع وإضعافها،  بقدر ما يسعى إلى إقناع المقلِّدة من العلماء والطلبة بالِالتفات شيئا قليلا إلى إدراك نصوص الشرع – المتناهية – إدراكا ينسجم مع روح العصر الحديث والواقع السريع، وأحداثه الغير المتناهية، فنصوص الشرع محدودة معدودة، ومقاصدها ومجالاتها واسعة لا محدودة، والحق – جل علاه – لما ذكر في سورة الحِجر قوله: “إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الآية(9)] أي إنما أنزلنا لكم نصوصا شرعية تكون لكم بمثابة قواعد كبرى، ينضوي تحتها ما لا يحصى من الضوابط والجزئيات التي تسدد آراءكم، وتضبط أذهانكم، حتى تكون منسجمة مع طموحات الشرع، وتحقيق مقاصده في الناس كافة.

إلا أن هذا الِاتجاه المقاصدي تشوبه بعض المغالطات، التي قد تؤدي إلى الوقوع في نوع من التناقض، بسبب سوء استثمار هذه القواعد، مما ينادي بضرورة تهذيب هذا النوع من الِاتجاه اِلاجتهادي الذي قد يصير فيما بعد علما مستقلا بذاته عن علم أصول الفقه ولو بشكل جزئي، وإن كان علم الأصول هو القاعدة، وفي هذا دعوة عاجلة للباحثين الراسخين في هذا العلم إلى مزيد من العناية بهذا الرَّكب المقاصدي والإحاطة به، لأنه زاد المفتين ونور الباحثين في الدين، وقد نفرد لذلك بحثا نسميه “تهذيب مقاصد الشريعة”.