من المتفق عليه عند علماء الأمة قديما وحديثا أن مظاهر خدمة السنة النبوية كانت واضحة في العقود الأولى و تم الاعتناء بها بصورة كبيرة حتى مطلع المائة الرابعة تقريبا؛ إذ لا يختلف اثنان ممن يعتد بقولهم في أن تلك القرون قد شهدت نشاطا زائدا في صون تراث النبوة، وبذلت أعظم الجهود في وقايتها ونشرها وتقريبها للأجيال اللاحقة، ولم يفت الأمةَ شيء من أمر دينها، وقد تم في تلك العصور تدوين الكتب الستة التي عليها مدار جل أحكام الدين، ثم دب الضعف والنقص إلى علم الحديث بشكل تدريجي.

من أهم أسباب ذلك الضعف في الاهتمام بعلم الحديث :

الأمر الأول: قلة رغبة الناس في هذا الشأن والاشتغال به، وقلة الهمم في تحصيله، يقول الإمام الذهبي – رحمه الله – مبيِّنًا ذلك: “ثم تناقص هذا الشأن في المائة الرابعة بالنسبة إلى المائة الثالثة، ولم يزل ينقص إلى اليوم، فأفضلُ مَنْ في وقتنا اليوم من المحدثين على قلتهم نظيرُ صغارِ مَنْ كان في ذلك الزمان على كثرتهم، وكم من رجل مشهور بالفقه والرأي في الزمن القديم أفضل في الحديث من المتأخرين، وكم من رجل من متكلمي القدماء أعرف بالأثر من سنية زماننا”[1].

وهذا ما يفسر تناقص الأهلية لصناعة علوم الحديث في العصور اللاحقة، وتكاد تكون من هوامش الاهتمامات، وقد اشتكى بعض علماء القرن الرابع هذا الخلل، يقول الإمام ابن حبان: “ولم يكن هذا العلمُ في زمانٍ قطُّ تعلُّمُه أوجبَ منه في زماننا هذا، لذهاب من كان يُحسن هذا الشأن، وقلَّةِ اشتغال طلبة العلم به؛ لأنّهم اشتغلوا في العلم في زماننا هذا وصاروا حزبين، فمنهم طلبةُ الأخبار الذين يرحلون فيها إلى الأمصار، وأكثرُ هِمّتِهم الكتابةُ والجَمْعُ، دون الحفظ والعلم به وتمييز الصحيح من السقيم، حتى سمّاهم العوامُّ حشويّة. والحزبُ الآخر: المتفقّهة الذين جعلوا جل اشتغالهم بحفظ الآراء والجدل، وأغضوا عن حفظ السنن ومعانيها، وكيفية قبولها وتمييز الصحيح من السقيم منها”[2] وتعاقبت الأزمنة، وقلَّ من ينشر هذا العلم، وصار أهل الحديث أقل من القليل أو في حكم العدم.

الأمر الثاني: سيطرة شوكة أهل البدع والأهواء على عقول الكثير من أبناء المسلمين بانشغالهم بعلوم مستوردة كعلم الكلام مما لا يقل خطورة آثاره، ومن ثم أدى إلى أن تعرضت السنة النبوية لهجمات وشبهات فكرية، ونتج منها سوء الفهم وسوء التأويل، بل التحريف للسنة، حتى ظهر منهج التشكيك في حجيتها والتقليل من شأنها، والاستدلال لصحة هذا القول نجده من ثنايا كلام أئمة هذا الشأن، فمثلا نرى أن الإمام الحاكم أبا عبد الله قد كان من دواعي تأليفه لكتاب معرفة علوم الحديث من هذا القبيل، يقول رحمه الله تعالى: “أما بعد! فإني لما رأيت البدع في زماننا كثرت، ومعرفة الناس بأصول السنن قلت، مع إمعانهم في كتابة الأخبار، وكثرة طلبها على الإهمال والإغفال، دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف …”[3].

ولا ريب في أن السبب الأول السابق الذكر نشوء للسبب الثاني، وتوالي الحقب في مسيرة هذه الظاهرة، ولم يبق لمتأخري الأمة كبير عناية بالسنة، فحصل من جراء ذلك الركود آثار سلبية على المجتمعات الإسلامية من الجمود المذهبي والفرق المنحرفة والتزين بالجهل، بيد أن هذه الظاهرة لم تقض على ملامح علم السنة أو اندراس آثارها لم يصل الأمر إلى هذه الدرجة أبدا، بل اقتضت حكمة الله تعالى ألا تزال طائفة من الأمة على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله، فلم يزل في الأمة أئمة النقد مجتهدين بين حين لآخر ينفون عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، يتعقبون ما يدور على ألسنة الناس مما لا يثبت من السنة، ولا ينتهي قرن من القرون حتى يعين الله عز وجل في القرن التالي من يعتنق عبء لواء السنة ويدعو إليها قولا وعملا وكتابا.

عودة حميدة لخدمة السنة بدءا من بلاد الهند

إن الهمم بعلم الحديث سكنت بعد عصر الإمام السيوطي في الشرق الإسلامي ، وفترت الرغبات في مسيرة خدمة السنة النبوية بشكل عام، حتى أشربت نفوس أهل ذلك العصر الدعة والكسل العلمى، واستلذوا الراحة الذهنية واطمأنوا إلى التقليد، وشهد علم الحديث في ديارهم ركودا مفرطا، واعتريه الجمود القاتل، إلى الحد أن صارت قراءة صحيح البخاري عند كثير منهم قراءة للتبرك أو للاستسقاء، ويالله العجب كيف أوصل الجمود الناس إلى هذه المنزلة واتخذوا الجهل والرخاء شعارا.

ولكن مع هذا تخلف النشاط العلمي في الشرق الإسلامي لم يثن ذلك من عزم عامة الأمة الإسلامية ولم يعق الجمود أمام إتمام سير خدمة السنة النبوية، وقد حاز علماء الهند -أرباب الفضل والنبل – قصب السبق في إحياء معالم علوم الحديث وتجديد أنشطته، ولهم فيه شدة الرغبة، وعزيمة صريحة، وبصيرة ثابتة، والتى تفوق الوصف، وترى بعضها في بصمة مباركة التى تركوها في كل فن من فنون علم الحديث: في شروح الحديث وعلومه وعلله ونقد الرجال الحديث وغير ذلك، سواء باللغة العربية أو بغلتهم، وهي موضوعة في وريقات، وأجزاء، ومجلدات، مثل: عون الباري شرح مختصر البخاريلنواب صديق حسن أبهوبال، وفتح الملهم بشرح صحيح مسلم لشبير أحمد العثماني، وعون المعبود على سنن أبي داود لشمس الحق العظيم آبادى، وتحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للمباركفوري…. وتذكرة الموضوعات للفَتَّنِي، والآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، والرفع والتكميل في الجرح والتعديل للكنوى…والحطة بذكر الصحاح الستة لنواب صديق حسن أبهوبال.. وهلم جرًّا في بقية علوم الحديث المعبرة عن النهضة العلمية الحديثية في تلك البقعة منذ عهد الشيخ أحمد السرهندي ثم تسارعت تلك النهضة في عهد ولي الله الدهلوي حتى صارت بلاد الهند أمصارا للمحدثين ترحل إليها من شتى أمصار العالم الإسلامى بعد القرن العاشر الهجري.

وقد عبر الشيخ رشيد رضا عن هذا الحق قائلا: ” ولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر، لقُضِي عليه بالزوال من أمصار الشرق، فقد ضعُف في مصر والشام، والعراق والحجاز منذ القرن العاشر للهجرة[4]

وبنشاط أؤلئك القوم الطيب انتشرت الثقافة الحديثية مرة أخرى بتدرج، ثم ازدهرت الجهود المخلصة بين علماء الأمة في العناية بالسنة منذ مطلع العصر الحديث،وعنوا بها عناية فائقة من جميع النواحي لسببين :

السبب الأول: لكون السنة مستهدفة، تارة من قبل الأعداء، وتارة من بني جلدتنا المفتونين بفتنة الحضارة الغربية، والمسرفين في الاعتزاز بالعقل تجاه النصوص الشرعية، أصحاب الاتجاهات الفكرية المعارضة للسنة النبوية.

السبب الثاني: لانتشار كثير من الأحاديث الموضوعة والواهية والضعيفة في الأمة الإسلامية، وعدم التمييز بين الصحيح والضعيف من الأحاديث، حتى خلطوا بين الحديث النبوي وأخبار بني إسرائيل وكلام الحكماء في الاستدلال والخطب والوعظ وغيرها، مما لها أثر في توسعة نطاق البدع والزيغ والهوى في الأمة.

وهذان السببان من أقوى دواع العودة الصادقة للإقبال على علم الحديث في العصر الحديث، ولأجلهما تحركت الهمم إلى تقريب السنة بين يدى الأمة بشتى المناهج والأساليب، تعلما وتعليما وتأليفا ودعوة ومؤتمرا.

ومن أبرز العلماء في تقوية النهضة الحديثية الشيوخ الثلاثة: أحمد شاكر، والمعلمي، والألباني، الذين اشتغلوا بنشر دواوين السنة تصنيفا وتهذيبا وتحقيقا وتدريسا، ورحمهم الله وأئمة الدين برحمته واسعة.


[1] -زغل العلم ص:32.

[2] المجروحين 1/11.

[3] معرفة علوم الحديث. ص35.

[4] مقدمة كنوز السنة