نيويورك؟ لا أزال أتذكر المصافحة الأولى! كان ذلك في الصف الرابع الابتدائي ربما، في حصة الجغرافيا تلقينا درساً عن منظمة الأمم المتحدة، وعرفت من هناك أن مقرها يقع في نيويورك، كان اسماً غريباً لكن موحياً بالفخامة والغموض.

 

ولم يكن ثمة من بعد ما يربطني بنيويورك حتى وقعت الواقعة! كنت فتىً في المرحلة المتوسطة حين جرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١ وهوى برجا مركز التجارة العالمي في منهاتن، من هنا عرفت “منهاتن” للمرة الأولى، لم يكن في بيتنا تلفاز، وكانت متابعتي للأحداث تعتمد على الإذاعة ومطالعة الصحف والمجلات في مكتبة الحرم المكي التي كنت أتسلل إليها من الحلقة القرآنية التي كنت منتظماً بها، كان شيخي -حفظه الله- يغض الطرف عن تسللي المتكرر إلى المكتبة، وكان أبي رحمه الله لا يدري!

ظلت علاقتي بنيويورك فاترة، حرب أفغانستان، ثم حرب العراق بعدها بعامين، كانت كفيلتين بتغذية هذا الفتور تجاه نيويورك والبلاد التي تحتويها!

المرة الأولى التي طالعت فيها شيئاً عن نيويورك كانت في كتاب صغير لشيخنا د. محمد الأحمري، حمل عنوان “أيام بين شيكاغو وباريس”، ذكر فيه أن سائق تاكسي في نيويورك كان يوصل راكباً إلى وجهة ما؛ فطلب منه الراكب المرور بمكان على الطريق، فقال السائق: هذا المكان بعيد! فقال الراكب: بل هو قريب منا، وهو يبعد كذا وكذا، والعمارة التي تجاوره كذا! على الرغم من أن الراكب يزور نيويورك للمرة الأولى! لكنها كانت معرفة عن طريق القراءة أكدتها التجربة.

 

وأخشى أن تمكر بي الذاكرة، لذا أرجح -ولا أؤكد- أن هذا الكتاب الصغير دفعني دفعةً قويةً جداً تجاه التعرف إلى المدن من خلال القراءة عنها.. إذ عرفت منه أن الغريب عن مدينة ما يمكن أن يعرف عنها ما لا يعرفه القريب، وأن “كتب الرحلات والبلدان: منها ما يزيرك ما لم تزر، ومنها ما يلقي بفكرته على مواقع تعرفها من قبل؛ فترى وتعرف ما لا تأتيك به السياحة”.

بعدها صدرت سيرة د. عبدالوهاب المسيري “رحلتي الفكرية”، جلبها لي من القاهرة أستاذنا د. عبدالله الطارقي، وقدمها لي هديةً ثمينةً جداً وأكثر من جداً، فرأيت فيها “نيويورك” بعيني المسيري طالباً يكمل دراساته العليا بها؛ فإذا هي مدينة ثرية، فيها طعام تايلندي وهندي وصيني وياباني وإيطالي، وفيها متاحف كثيرة، وحدائق غناء، ودور سينما ومسارح تتيح لذوي الدخل المحدود أن يحضروا المسرحيات وقوفاً في الممرات لا جلوساً على الكراسي، وبأسعار مخفضة.

ولكن نيويورك كانت -ولا تزال بالمناسبة- مدينةً باهظة التكاليف؛ وهو الأمر الذي اضطر المسيري إلى الهرب منها باتجاه البلدة الجارة “نيوبرونزويك”.. حيث الحياة هناك أرخص، ونيويورك في المتناول متى ما سنحت فرصةٌ وتوفر شيء من المال!

وهكذا هي المدن الكبرى، تحمل في ضمن ميزاتها ما ينفّر منها، ففيها الثراء والتنوع والفرص والعلاقات والمؤسسات، ولكن فيها الازدحام والاحتيال والغلاء الباهظ.

عوداً إلى نيويورك، يقول العارفون بالسينما إن نيويورك تسيطر على حصة شاسعة من أفلام هوليوود الأمريكية، ولأن علاقتي بعالم السينما والأفلام فاترةٌ وأكثر من فاترة؛ فقد كان من المتعذر علي أن أتعرف إلى نيويورك عبر الشاشة بالشكل الذي تعرف به إليها من رزقوا الجلد في متابعة مخرجات هوليوود. وظلت معرفتي بها مقتصرة على ما أطالعه في الكتب، وهو ليس بالكثير، وعلى ما أسمعه من الأصدقاء الذين زاروها، وهو نزرٌ يسير، وليس فيه من الثناء إلا القليل، وعلى الأفلام الوثائقية التي رأيتها عن نيويورك، وهي أيضاً أفلام قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.

قبل سنوات قليلة جداً تعرفت إلى “ميخائيل نعيمة” حين وجدت صدفةً كتابه الصغير “مذكرات الأرقش” وهي يوميات لشخص ابتدعه نعيمة من خياله، يعمل نادلاً في مقهى بنيويورك، ويسطر بين الحين والحين عن نيويورك ملاحظات لا وزن لها.

 

لكني طالعت في “سبعون” مذكرات ميخائيل نعيمة، انطباعاً عن نيويورك نابضاً بالحياة.. فقد كان أخوه يتوقع منه أن يندهش حين يرى نيويورك وما فيها من ناطحات سحاب “باتت اليوم ناطحات ضباب بالنسبة لما قام بعدها من بنايات شاهقات”، لم يُعجب ميخائيل بنيويورك، بل كان يشعر بثقل بنيانها على صدره، ويحس أن قطاراتها الصاخبة تجري على جسده لا على القضبان، وكان زحام نيويورك يذكره بنقيضه: صنين والشخروب، السكون والوداعة في ريف لبنان؛ فتؤلمه الذكرى، ويرى نفسه نقطةً في مصحفٍ لا تربطه بحروفه أية صلة!

وكانت نيويورك في ذلك الوقت المبكر من القرن العشرين كما يحكي نعيمة مزيجاً هائلاً من الأحياء: “ما بين سوري وصيني وبولوني وروسي ويهودي وزنجي وإيطالي وإرلندي… إلى آخر ما هنالك من أمم الأرض، وليس يجمع بينها غير صوت الدولار وغير وجهه الكريم”.

كان ذلك انطباع ميخائيل نعيمة عن نيويورك التي ذهب إليها زائراً، ودار الزمان دورته فجاءها ميخائيل ساكناً.. ووجد لنفسه بها قراراً إلى حين.

طالعت نيويورك أيضاً حين كانت محطةً مرّ بها أرسكين كالدويل في طريقه إلى النجومية، في عشرينيات القرن العشرين الميلادي وصل كالدويل نيويورك وفي جيبه اثنا عشر دولاراً، وتذكرة مفتوحة بالباص، ونسخة من كتاب قيل إنه ثمين، واكترى كالدويل فندقاً في الشارع السابع ٥١، ودفع ثماني دولاراتٍ أجرة ليال أربع، وهو مبلغ أظنه لا يكفي لكراء عش عصفور في نيويورك اليوم!

 

وفي نيويورك تعرض كالدويل لعملية نصب، فضاع عليه كتابه، وعانى في رحلته بعض الجوع، ولكن نيويورك كانت، ولا تزال، مدينة الفرص، فقد كانت نيويورك باباً عظيماً لكالدويل إلى الشبع والري والمجد الأدبي بعدما كانت مسرحاً للجوع والاحتيال قبل مدة ليست بالبعيدة.

وددت لو أني أعرف عن نيويورك أكثر بكثير مما عرفت، ولكن “الجود بالموجود” كما يقول من يعتذر لضيفه عن المائدة إذا كان الطعام نزراً.

وأود لو أتيحت لي رؤية نيويورك، إذ ربما أسأل ذات السؤال الذي طرحه محمود درويش منذ أمد:

 

نيويورك/ نوفمبر/ الشارع الخامس/

الشمس صحن من المعدن المتطاير/

قلت لنفسي الغريبة في الظل:

هل هذه بابل أم سدوم؟!