من نعم الله علينا وعلى البشرية بأسرها أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما بُعِث إلا لتحقيق ونشر الرحمة بين الناس جميعا، كما قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }( الأنبياء:107)، وإذا كان الناس ـ عامة ـ بحاجة إلى الرحمة والرعاية، فإن العصاة والمذنبين بحاجة خاصة أن نأخذ بيدهم ولا أن نتركهم واقعا، أو نهيل عليهم التراب فنكون عونا للشيطان عليهم. وسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأحاديثه عامرة برحمته مع هؤلاء. ومن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم – مع العصاة والمذنبين مهما ارتكبوا من ذنوب أن نفتح لهم أبواب الأمل والرجاء والطمع في رحمة الله وعفوه.

عن أبي هريرة قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت.

قال: «مالك؟»

قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها؟»

قال: لا .

قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟»

قال: لا.

قال: «هل تجد إطعام ستين مسكينا؟»

قال: لا.

قال: «اجلس».

ومكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر- والعرق المكتل الضخم- قال: «أين السائل؟»

قال: أنا.

قال: «خذ هذا فتصدق به» .

فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي!

فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: «أطعمه أهلك» [متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (2/ 12)].

كبيرة من الكبائر

لطالما سمعنا بهذه القصة وقرأناها، وما أكثر ما يستشهد بها على رحمته صلى الله عليه وسلم. لكن، مهلا، هل ننتبه مع مَن كان رحمته صلى الله عليه وسلم هنا؟ ومع مَن كان رِفْقُه وتسامُحُه؟ إنه ليس مع الجاهل الذي لا يعلم، ولا مع الناسي الذي لا يتذكر، نعم ليس مع واحد من هؤلاء.

إن سماحته هنا ربما تكون صادمة لكثير من الدعاة والمتدينين، إن سماحته هنا كانت مع عاص من العصاة، مذنب من المذنبين، وإنه ليس ذنبا من الذنوب الصغار التي قال فيها ربنا : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32].

إنها لم تكن من اللمم، ولا من الصغائر، بل نحن أمام ( كبيرة ) من الكبائر. وصفها الله عز وجل في القرآن بالخيانة، قال تعالى : ” {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } [البقرة: 187].

إنها كبيرة ، لا مِراء في كِبَرها، ولا شك في فداحتها، حتى الرجل نفسه يعلم أنها كبيرة ومهلكة، فقد قال الرجل معترفا : ” يا رسول الله هلكت”!

فانظر إليه صلى الله عليه وسلم، لم يأمره باجتناب مجلسه الطاهر، فهو يعلم صلى الله عليه وسلم أنه من أجل هؤلاء بُعث، ومهمته أصلا مع الذين  يهلكون أنفسهم، يجرهم من الهلكة إلى النجاة، ومن النار إلى الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها» .[متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (3/ 94)]

بدون انزعاج

من هدي النبي مع العصاة والمذنبين أنه لم يُبد انزعاجا ولا انقباضا ولا تجهما في وجه الرجل؛ لأنه يعلم أن الإنسان خلق ضعيفا، وأن الخطأ من سمات البشر، وأن إصلاح الخطأ من سمات الصالحين، هكذا ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه أنه جاءه ليُصلح خطأه، إنه يعلم أنه ما ألجأه إليه إلا بقايا إيمان في ضميره، أفسدت عليه لذة المعصية، وأيقظت في جوانبه النفس اللوامة، فجاء يلوم نفسه ويخاصمها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تخاصمه هي بين يدي الله سبحانه يوم القيامة.

لم يوجه النبي صلى الله عليه وسلم  إلى الرجل كلمة عتاب واحدة؛ ليس لأن معصيته صغيرة، ولكن؛ لأن الرجل أفاق وندم، وفي الحديث : ” الندم توبة” [صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1150)]

فعلام التوبيخ إذن، وقد قام الرجل بتوبيخ نفسه بما يكفي، وجاء مسلمًا إياها للنبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيها ما يشاء، المهم أن يصلحها ويحط عنها آثامها، فلا حاجة إذن لجلد نفسية الرجل، فلتبدأ إجراءات الإصلاح فورا.

لا أجد ولا أستطيع

«هل تجد رقبة تعتقها؟» قال: لا .

«فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا.

«هل تجد إطعام ستين مسكينا؟» قال: لا.

لو  كان أحدنا مكانه صلى الله عليه وسلم، لبادر الرجل بالجواب : ويكأنك ليس لديك قدرة إلا على المعصية إذن!

لا رقبة تملكها، ولا مال تطعم به، ولا قدرة على الصيام، فأين ذهبت قدرتك التي عصيت الله بها؟

لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم للرجل شيئا من ذلك؛ فالرجل جاء من تلقاء نفسه طالبًا التوبة، فليس ثمة ما يحمله على الكذب والمراوغة !

إن الرجل أدرى وأعلم بقدراته وإمكاناته! لا يملك ولا يقدر ولا يجد، فهو كما قال. لكن أحدنا لا يقبل هذا ممن يكون في مثل موقف الرجل، ويأخذ في إثبات أن الرجل يكذب، أو يراوغ، وأحسننا ظنًّا يقول : إنه يبالغ!

لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل شيئا من ذلك، وصدَّق الرجل. ولم يأمره أن يذهب ليحل مشكلته بنفسه، فلم يقل له مثلا : كما أوبقت نفسك فاذهب فأعتقها، فمهمة الدعاة الأخذ بأيدي التائبين، ومحاولة فك أغلال من أوبق نفسه بالمعصية، فهل يحمل أحدنا هم من يأتيه تائبا كما حمله النبي صلى الله عليه وسلم!

إن أفضلنا يعد نفسه من أولي العزم في الدعوة لو أنفق جزءًا من وقته ليستمع حكاية السائل وشكواه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم  يسعى إلى الحل وكأن المشكلة مشكلته هو صلى الله عليه وسلم!

فلمَّا يحضر التمر، يعطيه إياه النبي صلى الله عليه وسلم ليكفِّر به عن خطيئته، فيستمر الرجل في إدهاشه:  وهل هناك من هو أفقر منا لنتصدق عليه! فيقره النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدفعه إليه دفع الكاره المغضَب، بل يعطيه إياه عطاء المحب المشفق، وهو يضحك صلى الله عليه وسلم.

مع أصحاب الصغائر

إذا كان هذا حاله صلى الله عليه وسلم مع أصحاب الكبائر، وهذا هدي النبي مع العصاة والمذنبين، فلا شك أنه كان أشد تسامحا ورحمة ورأفة مع أصحاب الصغائر، فعن أنس قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدا فأقمه علي، قال : ولم يسأله عنه، وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم فيَّ كتاب الله.

قال: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم، قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال: حدك “[ متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (3/ 244)]

فانظر لم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن طبيعة الذنب وتفاصيله ، بل انتقل من الذنب إلى العلاج، دون أن يقف مع طبيعة الذنب منعا لإحراجه، وسترا عليه.

والفارق بين هذا الرجل والرجل الأول، حيث سأل الأول : فقال له : «مالك؟»؛ أن الأول وصف معصيته بأنها مهلكة، فكأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن يكون الرجل ممن يبالغ فيعتقد هلاك نفسه في أمر غير مهلك فسأله من أجل ذلك، كما سأل الغامدية لعلها تكون هوَلت، فقال لها : لعلك ولعلك. أما هذا الرجل فيبدو أنه لا يبالغ ولا يهون ولا يهوِّل.

عبد ضعيف ورب غفور

وقف النبي صلى الله عليه وسلم على نفوس نادمة باحثة عن سبل الخلاص من تبعات الإثم مهما كلفها ذلك من تضحيات، وبإزاء ذلك رب عفو كريم يحب العفو، ويريد أن يتوب على عباده، ويريد أن يخفف عنهم  {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } [النساء: 27، 28]

فلما رأى  صلى الله عليه وسلم هذا من العبد، وأيقن ذلك من الرب،  تخلَّق بخلق القرآن، فلم يكن يفرح بعقوبة مخطئ، ولا يتتبع  خطأ عاصٍ، بل جُلُّ رجائه : عفو قادم، وتخفيف نازل، وستر باق؛  ولِمَ له وقد وصفته عائشة رضي الله عنها بأنه كان خلقه القرآن.