أثناء دراستنا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، تناولنا نظرية “توماس مالتوس” التي تفيض بتشاؤمها على مستقبل الإنسانية، كان “مالتوس” وضع كتابا في العام (1798م) بعنوان “مبادئ السكان”، تتلخص أفكاره: أن السكان يتزايدون بمتوالية هندسية، أما الموارد الغذائية فتتزايد بمتوالية عددية، وعلى هذا فإن الموارد لن تكفي سكان العالم، وستنتشر المجاعات والأمراض والحروب حتى يعود التوازن بين الغذاء والسكان، ومضت السنون، وتزايد البشر أضعافا، وزاد إنتاجهم واستهلاكهم من الغذاء وزادت رفاهيتهم، واستبدل البشر تشاؤم “مالتوس” بتفاؤل كبير.

 

عندما أخذت في قراءة كتاب “الاقتصاد السياسي للسيادة في الدولة العربية” تأليف “جين هاريغان”، والصادر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت في أكتوبر 2018 في (345) صفحة، والذي يشير إلى أزمة قادمة في الغذاء خاصة في المنطقة العربية، أحسست أننا لسنا أمام تشاؤم، بقدر ما أننا أمام إنذارات تستند لمؤشرات حقيقية عن أزمة قادمة في الأقوات والأغذية ستطحن الطبقات الفقيرة في العالم العربي مع ارتفاع سعر الغذاء عالميا، وهو ما ينعكس سلبا على العرب باعتبارهم  أكبر مستوردي الغذاء في العالم.

ورغم أن نسبة الفقر في المنطقة العربية تقترب من 5% من السكان، وهي نسبة قليلة مقارنة بمجتمعات أخرى، إلا أن جزءا كبيرا جدا من السكان في المنطقة العربية يقفون على خط الفقر مباشرة[1]، وهو ما يجعل وضعهم شديد الهشاشة تجاه أي تقلبات في أسعار الغذاء، ويسهل هبوطهم تحت خط الفقر، وتلك طبقات خطرة في حالة الأزمة التي تهدد المعاش والحياة، فاليأس له آثاره السياسية والاجتماعية، ولا يساهم في حالة الاستقرار والأمن الاجتماعي.

الغذاء عالميا

في العام 2007-2008 شهد العالم أزمة كبيرة في الغذاء، ارتفعت معه الأسعار خاصة القمح بمتوسط 130%، ثم شهد العام 2010-2011 ارتفاعا آخر في أسعار القمح، غير أن ضعف الإنتاج لم يكن هو السبب الوحيد وراء هذا الارتفاع، فقد حدثت تغيرات في النظام الغذائي في الصين والهند اللتان يشكل سكانهما ما يقرب من نصف سكان العالم، فزاد فيهما الإقبال على تناول الألبان واللحوم، كما حدثت تغيرات في النظر إلى بعض المحاصيل الزراعية إذ أصبحت تدخل في تصنيع الوقود الحيوي[2] خاصة الذرة والتي تستهلك هذه الصناعة منها أكثر من ثلث الإنتاج، كذلك تحولت الذرة من غذاء للإنسان في كثير من الدول ذات الكثافة السكانية لتكون غذاء حيوانيا، مما ساهم في زيادة الإقبال على استهلاك القمح، كما تم تخصيص أجزاء واسعة من الأراضي المخصصة لزراعة القمح لزراعة نباتات مثل “البرسيم” لتغذية الحيوان لإنتاج اللحم واللبن باعتبارهما أكثر ربحية للمزارعين، فتقلصت المساحة المخصصة للحبوب خاصة القمح.

وتشير منظمات دولية أن من الضروري زيادة إنتاج الغذاء في العالم بنسبة 40% بحلول عام 2030م لتلبية الطلب المتوقع، وأن أسواق التصدير الأساسية للأغذية تتركز في خمس دول هي :الأرجنتين وأستراليا وكندا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهذه الدول توفر 73% من الحصة التصديرية العالمية، وهو ما يشكل خطرا على السوق العالمية في حال حدوث أي تقلبات في تلك الدول، ففي سلعة أخرى مثل الأرز تحتكر دولتان هما تايلاند وفيتنام أكثر من نصف تجارة الأرز الدولية، وقد شهد العام 2011 أزمة في تلك التجارة مع الفيضانات التي اجتاحت تايلاند.

ولعل الأخطر فيما يتعلق بتجارة الغذاء عالميا هو الوقود الحيوي، فالولايات المتحدة التي تستأثر بـ28% من الصادرات العالمية للحبوب، تحول عدد كبير من مزارعيها إلى زراعة المحاصيل المستخدمة في الوقود الحيوي (الكتان-قصب السكر-الذرة-فول الصويا)، وتم سحب جزء كبير من إنتاج الذرة إلى هذا المجال يُقدر بـ35% وهو ما اثر على الحصة الأمريكية في التجارة الدولية، حيث تستأثر واشنطن بثلثي الصادرات العالمية من الذرة، كما أن جزءا من إنتاج فول الصويا في البرازيل تحول إلى إنتاج الوقود الحيوي، ومعنى ذلك أن سياسات إنتاج الوقود الحيوي المتزايدة سترفع من أسعار الغذاء  وأزمته عالميا.

الغذاء عربيا

البلاد العربية هي الأكثر اعتمادا على واردات الغذاء، فمعظمها تستورد ما بين 25% إلى 50% من غذائها، وأن أكثر من 35% من السعرات الحرارية اليومية تأتي من القمح وحده، ويشكل القمح حوالي من 40% إلى 50% من واردات الغذاء العربية، وتمثل واردات الغذاء ما بين 11% إلى 34% من واردات السلع، أما فاتورة الوردات الغذائية فتشكل 5% من الإنتاج الإجمالي للدول العربية بما فيه النفط، كما أن العرب هم أكبر مستورد للقمح عالميا، فاستوردوا حوالي 66 مليون طن قمح عام 2010، وهي نسبة تفوق ما استوردته قارة آسيا بما فيها الصين، التي استوردت في نفس الفترة 53 مليون طن، ولا يوجد بلد عربي يكتفي من الحبوب باستثناء سوريا، التي تحقق فائضا منذ أربعين عاما.

وتشير التقارير الدولية أن البلدان العربية شهدت أسرع نمو في معدلات السكان خلال الخمسين عاما الماضية، فزادت بعض البلاد ثلاثة أضعافها، كما أن كثيرا من تلك البلدان زادت نسبة الدخول بها خاصة الدول الخليجية مما أوجد تغيرا في معدلات استهلاك الغذاء، ونوعيته التي زادت فيها اللحوم والألبان بنسبة كبيرة جدا، كما زادت نسبة السكان العرب الذين لا ينتجون غذائهم.

وفي ظل التقلبات المناخية والسياسية زادت حدة المشكلة الغذائية، أضف إلى ذلك تراجع نسب المياه، فرغم أن العرب 5% من سكان العالم، فإن لديهم 1% من موارد المياه العذبة المتجددة، ويقع 15 بلد عربي ضمن المناطق الأفقر مائيا في العالم، ومتوسط نصيب الفرد عربيا من المياه الأقل عالميا، وبعض البلدان العربية لا تنتج إلا 1% من احتياجها من الحبوب مثل لبنان رغم كثافتها السكانية العالية.

هذا النقص الغذائي انعكس صحيا واجتماعيا في كثير من البلدان العربية، إذ قلل الفقراء كمية أغذيتهم مع ارتفاع الأسعار، وقللوا من جودته نحو الأغذية الأرخص، كذلك حولوا جزءا من الإنفاق الموجه نحو التعليم والصحة إلى محاولة توفير احتياجاتهم المعيشية والغذائية، ولعل ذلك كان وراء انتشار ظاهرة “التقزم”  أي: قصر القامة، فالدراسات تشير أن ما بين 15% إلى 25% من الأطفال العرب الذين تقل أعمارهم عن خمس سنوات هم أقصر قامة مما ينبغي بالنسبة إلى سنهم.

وفي بلد مثل مصر تسهم النظم الغذائية ضعيفة المحتوى في إقبال السكان على الأغذية النشوية مما يزيد في انتشار السمنة وبعض الأمراض غير المعدية كالسكر والقلب وضغط الدم، ففي مصر والأردن يعاني ما يقرب من 35% من السكان من السمنة وآثارها بسبب اختلال النظم الغذائية.

وتحدث الكتاب عن ظاهرة تستحق التوقف وهي “النفايات الغذائية” أو بقايا الأطعمة التي تذهب إلى القمامة، حيث تصنف بعض الدول العربية بأنها الأعلى في العالم في هذا الجانب، ففي الأمارات يذهب 34% من الطعام إلى النفايات، وفي البلدان التي تقدم دعما كبيرا للخبز مثل مصر يذهب جزء كبير منه إلى النفايات.

وهنا نتوقف عند تقديرات دولية تؤكد أن الطلب على الحبوب في المنطقة العربية سيزيد في الأعوام المقبلة بنحو 70% على الحبوب، وبالتالي سترتفع الواردات من 84 مليون طن إلى 142 مليون طن، وهو ما يجعل المنطقة العربية ذات هشاشة كبيرة فيما يتعلق بالغذاء، ويسمح بأن يتحول الغذاء إلى سلاح استراتيجي في أيدي الدول المصدرة للحبوب خاصة القمح، فالطعام حاضر على مائدة السياسة، وهو قابل للتسيس مع أي أزمة، ولعل هذا يذكر بشعار” نحن نموت بردا..وهم يموتون جوعا”  الذي رُفع في الولايات المتحدة عام 1973 إبان الحظر النفطي على الدولة الغربية المساندة لإسرائيل، لقطع إمدادات الغذاء عن المنطقة العربية.


[1] خط الفقر هو أن يحصل الفرد على 1.25 دولار يوميا

[2] الطاقة المستدامة من الكائنات الحية سواءً الحيوانية منها أو النباتية. وهو يعتبر من أهم مصادر الطاقة المتجددة على خلاف غيره من الموارد الطبيعية، مثل النفط والوقود النووي، لذلك سعت الكثير من الدول لزراعة أنواع معينة من النباتات خصيصاً لاستخدامها في مجال الوقود الحيوي، ومنها الذرة وفول الصويا في الولايات المتحدة الأميركية، وقصب السكر في البرازيل، وزيت النخيل في شرق آسيا.