للتنمر صور عديدة: منها ما يكون اعتداء لفظيا فقط على سبيل السخرية والاستهزاء، ومنها ما يكون اعتداء لفظيا على سبيل الاعتداء على العرض، ومنها ما يكون إرهابا وتخويفا فقط، ومنهاما يكون بمنع الضحية من السير في الطريق أو إلجائه إلى أضيقه، ومنها ما يكون بالاعتداء على ماله ومتعلقاته، سواء بإتلافها أو بالاستيلاء عليها، ومنها ما يصل إلى حد انتهاك العرض بأنواع وصوره المختلفة.

والأصل في جريمة الحرابة قول الله تعالى : {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].

شروط الحرابة

وقد وضع الفقهاء للحرابة شروطا منعًا لتداخل الحرابة مع غيرها من الجرائم، بحيث إذا توافرت هذه الشروط في الجريمة كانت حرابة، وإذا خلا منها شرط لم تدخل في جريمة الحرابة، وهذه الشروط هي :

قصد الاستيلاء على الأموال أو الاعتداء على الأرواح.

المجاهرة.

حمل السلاح.

البعد عن العمران.

التكليف.

وإذا طبقت هذه الشروط فإنها لا تجعل صور التنمر التي تخلو من الاعتداء على المال أو النفس أو العرض، لا تجعلها من الحرابة، لكن ذلك لا يقتضي عدم تجريمها، أو عدم العقاب عليها، ولكن مقتضاه أن ينال المتنمرين عقوبة دون عقوبة الحرابة.

وأكثر صور التنمر تخلو من هذه الشروط بالفعل؛ فالمتنمرون لا يقصدون سلب المال ولا القتل ولا هتك العرض غالبا، ولكنهم يقصدون السخرية من الضحية وإذلالها، والتحرش بها، وهذا يوجب التعزير الشرعي في حقهم.

ومن النصوص الفقهية في ذلك :

جاء في الأم : “ولو هيبوا ولم يبلغوا قتلا ولا أخذ مال عزروا” [1]

جاء في المبسوط: “والمراد عندنا الحبس في حق من خوف الناس ولم يأخذ مالا ولم يقتل”[2]

وجاء في المغني :”إذا أخافوا السبيل ، ولم يقتلوا ، ولم يأخذوا مالا ، فإنهم ينفون من الأرض”[3].

وجا في كتب المالكية :

“المحارب وهو من أخاف الطريق لأجل أن يمنع الناس من سلوكها أي من أخاف الناس في الطريق لأجل أن يمنعهم من السلوك فيها والانتفاع بالمرور فيها وإن لم يقصد أخذ مال من السالكين بل قصد مجرد منع الانتفاع بالمرور فيها سواء كان الممنوع من الانتفاع بالمرور فيها خاصا كفلان أو كان كل مصري أو عاما كما إذا منع كل أحد يمر فيها إلى الشام”[4]

التكليف

كما أنه من الأسباب المخففة التي تبعد حد الحرابة عن المتنمرين، وقوع التنمر غالبا على أيدي أطفال دون سن التكليف.

 

لا خلاف بين الفقهاء في أن البلوغ والعقل شرطان في عقوبة الحرابة لأنهما شرطا التكليف الذي هو شرط في إقامة الحدود.[5]

وعدم وجوب الحد على الصبى والمجنون لا يمنع من تأديب الصبى والمجنون بما يتفق مع حالتهما كضرب الصبى وحجز المجنون فى مكان لمنع أذاه عن الناس. [6]

والمتأمل للفقه الإسلامي يجد أنه قسم حياة الإنسان العمرية من حيث توقيع العقوبة الجنائية عليه إلى ثلاث مراحل :

المرحلة الأولى:

هي ما دون السابعة،  وهذه المرحلة، الغالب فيها عدم التمييز، ويسمى فيها الصبي بالصبي غير المميز؛ أي: أن الغالب في هذه المرحلة أن يكون على هذه الصفة، وإن شذ بعض أفراده؛ لأن الغالب حكم الكل، والشاذ لا حكم له،

فإذا وقعت من الصبي جناية على إنسان في هذه المرحلة، فهل توقع عليه عقوبة أو يلزمه جزاء؟

أجمع الفقهاء على أنه لا عقوبة عليه في هذه السن؛ لأن المعنى الذي شرعت من أجله العقوبة لا يتحقق في الصبي؛ لانعدام عقله أو قصوره قصورا بينا.

المرحلة الثانية :

وهي مرحلة الصبي المميز، وهو من بلغ السابعة ولم يصل إلى سن البلوغ، وحكم هذه المرحلة من حيث توقيع العقوبة الجنائية عليه حكم المرحلة السابقة.

المرحلة الثالثة:

وهي مرحلة ما بعد البلوغ، وبه تكمل المسئولية وتتم الأهلية، فقد جعل المشرع البلوغ أمارة على تكامل العقل؛ لأن الاطلاع على تكامل العقل متعذر؛ لأنه أمر خفي، فأقيم البلوغ مقامه؛ ومن ثم يعاقب البالغ بالعقوبة المقررة على الجرم الذي يقترفه. ([7])

البعد عن العمران

جريمة الحرابة إما أن تقع داخل المصر قريبا من العمران، وإما أن تقع خارج المصر بعيدا عن العمران، فإذا وقعت خارج المصر، فقد اتفق الفقهاء على اعتبار مرتكب هذه الجريمة محاربا، ويقصد بخارج المصر كون المكان نائيا لا يصل إليه الغوث بسرعة، ويكون بعيدا عن حفظة الأمن التابعين للدولة، كما لو كان مسرح الجريمة الصحراء.

أما إن وقعت داخل المصر فللفقهاء رأيان في تكييف هذه الجريمة:

الرأي الأول :

ذهب المالكية والشافعية وهو رأي أبي يوسف من الحنفية وكثير من أصحاب أحمد إلى أنه لا يشترط البعد عن العمران وإنما يشترط فقد الغوث .

ولفقد الغوث أسباب كثيرة ، ولا ينحصر في البعد عن العمران .

فقد يكون للبعد عن العمران أو السلطان .

وقد يكون لضعف أهل العمران ، أو لضعف السلطان .

فإن دخل قوم بيتا وشهروا السلاح ومنعوا أهل البيت من الاستغاثة فهم قطاع طرق في حقهم .  [8]

المجاهرة

ومما يباعد التنمر من الحرابة، اشتراط الفقهاء وقوع الحرابة مجاهرة.

فقد اختلف الفقهاء في اعتبار المجاهرة شرطا من شروط جريمة المحاربة، فقد صرح جمهور الفقهاء “الحنفية، والشافعية، والحنابلة [9]، بأنه لا بد من أن يكون المحارب مجاهرًا بمحاربته.

 

ولعل مرد هذا الشرط هو كون المحاربة، وهي مفاعلة من الجانبين لا تتم إلا بالمجاهرة، غير أن المالكية [10]لم يشترطوا هذا الشرط، فجعلوا الجرائم التي تتم بالخدعة والغش، والتي تتم سرا داخلة في المحاربة؛ وذلك لأن المحاربة فيها أشد؛ حيث يؤخذ الآمنون على غرة .

جاء في شرح الخرشي: “وكذلك من خدع صغيرا، أو كبيرا، فأدخله موضعا فقتله، وأخذ ماله، فإنه يكون محاربا؛ لأنه أخذ منه المال على وجه يتعذر معه الغوث”.[11]

حمل السلاح

ومما يباعد التنمر من الحرابة، اشتراط بعض الفقهاء استخدام المحارب للسلاح.

فإذا تم استخدام سلاح في الاعتداء، فلا خلاف بين الفقهاء حينئذ في اعتباره حرابة، وأما إذا تم اعتراض الضحية بغير سلاح، كأن يكتفوا باستعراض قوتهم البدنية مثلا فيمنعوا الضحية من التحرك ونحو ذلك، فلا يعتبر الحنفية [12] والحنابلة [13] ذلك حرابة.

بينما يتسع الاجتهاد عند المالكية [14] والشافعية [15] لاعتبار ذلك الاعتداء نوعا من الحرابة؛ حيث إنهم لا يشترطون حمل السلاح بل يكفي عندهم القهر والغلبة وأخذ المال ولو باللكز والضرب بجمع الكف.

جاء في المدونة : “أرأيت المحارب يخرج بغير سلاح، أيكون محاربا أم لا؟ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئا وأرى إن فعل ما يفعل المحارب من تلصصهم على الناس وأخذ أموالهم مكابرة منه لهم فأراه محاربا.” [16]


[1] – الأم للشافعي (6/ 164)

[2] – المبسوط للسرخسي (9/ 135)

[3] – المغني لابن قدامة (12/ 482)

[4] – الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (4/ 348)

[5] – بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (7/ 91)، و منح الجليل شرح مختصر خليل (9/ 338)، وتحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (9/ 157)، والمغني لابن قدامة (12/ 486)

[6] – التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي (2/ 664)

[7])) انظر : الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون (ص: 24 وما بعدها)

[8] – انظر : الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (4/ 113)، وشرح مختصر خليل للخرشي (8/ 105)، و نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (8/ 4)، و المغني لابن قدامة (12/ 474)

[9] – المغني لابن قدامة (12/ 475)، و نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (8/ 4)

[10] – شرح مختصر خليل للخرشي (8/ 105)

[11] – شرح مختصر خليل للخرشي (8/ 105)

[12] – الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (4/ 115)

[13] – المغني لابن قدامة (12/ 475)

[14] – المدونة (4/ 552)

[15] – روضة الطالبين وعمدة المفتين (10/ 156)، وانظر : التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي (2/ 641)

[16] – المدونة (4/ 556)