هل يمكن أن يكون من بيننا اليوم قائل بأن صوت المرأة عورة يجب سترها؟ الطبيعي أن نقول:لا، ولكن الواقع يقول: نعم، وتلك إحدى أزمات أمتنا التي ما تزال ـ رغم قرن من إعلان النهضة ـ تعتمد في فهمها وفقهها ـ في كثير من المسائل ـ على تراث عصر الانحطاط.

 

هناك ناس تعيش أذهانهم حالة خمول، المؤسف أنهم ما يزالون يوجهون واقع كثير من شرائح المجتمع، هم جزء من مشكل الأمة الذي عليها أن تتخلص من قبضته كي تتحرر من عقابيل الفهم السقيم الذي يعيقها عن فهم ماضيها ووعي حاضرها واستشراف مستقبلها، وهل أوتيت الأمة إلا من تخلفها في الفكر والسياسة والعلم.

 

في هذا المقال أريد تأطير هذه المسألة من زوايا شرعية/نصية وفكرية/فقهية وواقعية/ضرورية، وأبدأ بالقول إن مقالة (صوت المرأة عورة) و(المرأة كلها عورة) ليست بحديث نبوي ولا بأثر ثابت عن أحد من القرون المزكاة.

 

إن الاتفاق حاصل على أن مجرد صوت المرأة ليس عورة يجب سترها، ولم أر في القرآن ما يأمر أو يندب إلى التحرز من صوت المرأة أحرى استبشاعه كما هو سائد في الأدبيات (العامية) للفقه، إلا ما كان من أمرها بترك الخضوع بالقول(فلا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولا معروفا)، والواضح من دلالة الآية اللفظية وسياقها النصي أن الأمر متوجه لقصد الريبة(وقوع الريبة او الافتتان غير المقصود مسألة تختلف من شخص لآخر)، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فالخضوع بالقول يشمل المكتوب والمنطوق(رسائل الشات مثلا)، والقول في عرف اللغة يشمل كل ذلك.

 

فنهاها عن”الخضوع بالقول” وفي لفظ الخضوع توجيه قرآني واضح نحو نمط من الكلام فيه تخنث وقصد إغراء، (وهنا تأتي المسألة الفقهية المتعلقة بما إذا كان صوت امرأة ما رخيما مغريا في أصله هل يحرم عليها الحديث مع الرجال الأجانب في شؤون الجِدِّ علما أو دعوة أو غيرها وهي مسألة ترجع للورع ولا يفتى فيها بالعموم)، غير ذلك ـ في رأيي ـ يرجع للعادات والتقاليد.

 

كما لم أر أحدا من الفقهاء المتحاورين في موضوع صوت المرأة استعصم بحديث صحيح صريح في الموضوع، وقصارى جهدهم هو الاحتياط وسد الذرائع وخوف الفتنة وهي اعتبارات لها ما يبررها، ولكنها تنظر في إطار  الموازنة بين المصالح العامة والفردية والمفاسد العامة والجزئية.

 

فالشارع حدد ضابط صوتها حال حديثها مع الأجانب، وذلك الضابط متوجه من ناحية أخرى للرجل، فلا يجوز له أن يقول للمرأة قولا مريبا يفهم منه قصد إيقاعها شباك الحرام.

 

إن بعض الفتاوى ذهبت إلى أن صوت المرأة بالقرآن يحرم سماعه على الأجنبي تخريجا له على صوتها بالغناء، رغم أن حرمة صوتها بالغناء ليست محل اتفاق بين العلماء، ولكن الغريب في هذا التخريج هو أنه يحول القرآن ـ تعالى الله عما يقولون ـ إلى وسيلة إغراء، مع أن الله قال فيه (إنه لقول فصل وما هو بالهزل).

 

إن الصورة التي بنتها النصوص الصريحة والصحيحة للمرأة في الشرع مغايرة للصورة التي بنتها لها الفتاوى الفقهية التي سادت عبر العصور، ولعل كتاب عبد الفتاح أبو شقة (تحرير المرأة في عصر الرسالة)فيه كثير مما يدل على أنها في عصر النبوة كانت تعيش في المجتمع بطريقة طبيعية عادية.

 

إن فتاوى العصور المتأخرة انطلقت في نظرتها للمرأة من دورها في تلك العصور وهو أنها للمتعة لا للإسهام في نهوض وبناء الأمة والمجتمع، لذلك ظلت فتاوى عصر الانحطاط تعلل كل شيء متعلق بها بخوف الفتنة، مع أن المرأة وخصوصا في العصر الحاضر أصبحت عنصرا فاعلا ومؤثرا في مجالات حيوية تقتضي النظر في موضوعها نظرا ينطلق من الشرع، لا يرتهن للتقليد ولا يُغرى بحمى التجديد، فالشارع أعلم وأحكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

 
أظن أن أي إعادة نظر في موضوع المرأة صوتها بالقرآن وغيره وبسمتها على الشاشة أثناء برنامج تلفزيوني، ينبغي أن يرجع أولا للأصلين، ثم ينقِّر عن العلل أطرت تلك الفتاوى المتشددة، والتي تتأثر حتما بالعادات والتقاليد والأعراف التي أنتجت في فضائها.

 

إن الأصل هو أن تسير العلاقة بين الرجل والمرأة بشكل طبيعي سير الحياة العادية؛ والتفريق هنا بين المرأة الجميلة والمرأة الدميمة لا دليل عليه، على أن تراعى ضوابط غض البصر والأذن من الجانبين عند ظهور عورة أو خضوع بالقول، كما أنه واجب أيضا عند خوف فتنة أو حدوثها، وهي مسألة تختلف من شخص لآخر، ولا يمكن تعميمها بل هي من قبيل(استفت قلبك).