يذهب الكاتب محمد عابد الجابري إلى أن العقل العربي يتشكل من ثلاث منظومات معرفية هي: البيان والعرفان والبرهان، ويمثل كل واحد من هذه الثلاثة في داخله منظومة متكاملة لتفسير الكون وفهمه كما تختص بمفاهيمها وأدواتها، ويناقش الجابري مسار دخول هذه الثلاثة إلى بنية العقل العربي.

وإذا كنا سنركز في هذا المقال على النظام البرهاني(الفلسفة الأرسطية) فإنه من اللازم أن نشرح دلالة هذه المنظومات الثلاث بشيء من الاختصار حتى نساعد القارىء في فهم ما نريد أن نتحدث عنه.

ـ البيان: يطلق الجابري (البيان) كمنظومة معرفية على مجمل الأفكار التي فضت سلطتها على العقل العربي من داخل الثقافة العربية والإسلامية المحض(علوم اللغة والدين)، أي قبل الاتصال بالفلسفات الأخرى، ويقرر أن هذا النظام يقوم على (ربط فرع بأصل) أي على نفس الآلية التي تؤسس البيان العربي (التشبيه) ومن هنا أخذ اسمه.

ـ العرفان: أما العرفان فيعني عنده تلك الفلسفات الإشراقية التي تأثر بها العقل العربي قادمة من (الهرمسية والمانوية)، والتي مثلتها في السياق العربي والإسلامي كل من الإديديولوجيا الإسماعيلية والكشف الصوفي,

أما البرهان فهو الفلسفة العقلية الأرسطية، إنه كما اتضح من التعريفات السابقة فإن (البيان) يقول على سلطة الدليل سواء في اللغة أو في الدين، أما (العرفان) فيقوم على سلطة الروح في علاقتها بعالم الميتافيزيقا وكيف يمكن أن تفسر الكون من خلال إشراقاتها، ويأتي (البرهان) ليمثل منزعا عقليا يمنح العقل سلطة أقوى من السلطتين السابقتين.

فكيف يرى الجابري عملية (تنصيب العقل في…الإسلام)؟

وهذا عنوان الفصل الذي تحدث فيه عن بدايات تعرف المسلمين على الفلسفة الأرسطية وعن السياق الذي دخلت فيه كتبه وفلسفاته إلى العالم الإسلامي، كيف تم ذلك؟

ينقل الجابري عن ابن النديم في (الفهرست) السبب الذي لأجله كثرت كتب الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة في البلاد الإسلامية، وهو عبارة عن رؤيا وجدها الخليفة المأمون، وفيما يلي نص كلام ابن النديم:

(…أحد الأسباب في ذلك أن المأمون رأى في منامه كأن رجلا أبيض اللون مشربا حمرة واسع الجبهة مقرون الحاجب أجلح الرأس أشهل العينين حسن الشمائل، جالس على سريره، قال المأمون: كأني بين يديه قد ملئت له هيبة. فقلت: من أنت؟ قال:أنا أرسطاليس. فسررت به وقلت: أيها الحكيم أسألك؟ قال سل. قلت: ما الحسن؟ قال: ما حسن في العقل، قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن في الشرع، قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور. قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم لا ثم (…) فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب. فإن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون، فكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ م عنده من مختار  من العلوم القديمة المخزونة المدخرة ببلد الروم، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع)

هنا يطرح الجابري احتمالية اختلاق هذه القصة، لكنه يتجاوز هذا الاحتمال ـ كعادته ـ ليقرر من خلاله أن مجرد وضعه يعتبر دليلا على أن الخلفاء العباسيين (المأمون في المقام الأول) استنجدوا بالفلسفة الأرسطية العقلية لمواجهة خصومهم من أصحاب الغنوص المانوي والعرفان الشيعي، وقد كانت دولة الخلافة مهددة من هذين الاتجاهين، وقد عمل العباسيون والخليفة المهدي خاصة على قمع الحركة المانوية بجميع الوسائل، حيث أنشأ (ديوان الزنادقة) لتتبعهم  ومطاردتهم، وكانت لفظة الزنادقة تعني آنذاك (المانوية) خاصة.

إلا أن المأمون أدرك خطورة الحسم الأمني مع الخصوم السياسيين وخاصة المانوية التي لها تقاليد عريقة في التنظيم السري والتي يقوم الولاء فيها على اتباع (المعلم) لا على الفكرة والمنهج، فاختار سلاح الجدل والمناظرة وهنا تتنزل رؤياه السابقة إنها كما يقول الجابري:”لم تكن من أجل أرسطو ذاته بل من أجل مواجهة ماني وأتباعه”.

لقد أنتجت تلك الترجمات وذلك التلاقح الفكري فلاسفة مسلمين، بل يذهب الجابري إلى أن الفارابي ” كان في المنطق (أرسطو العرب) ليس فقط لأنه استعاد منطق أرسطو كاملا واستوعبه تمام الاستيعاب، واعيا بمركز الثقل فيه، بل أيضا لأنه رأى فيه الوسيلة التي يمكن بواسطتها جعل حد للفوضى الفكرية السائدة في عصره، ومن هنا حرص الفارابي على توضيح وظيفة المنطق الاجتماعية”.

إنه مجال فعالية المنطق عند الفارابي ليس هو  تصحيح ما عند أنفسنا بل تصحيح ما عند غيرنا وتصحيح ما عندنا بواسطة غيرنا ايضا، كما يشرح الفارابي أهمية المنطق في السلوكين الفردي والمجتمعي، فهو ـ في نظره ـ يعصم من إطلاق الأذهان مهملة تسبح في أشياء غير محدودة، إنه يضبط علاقتنا بأنفسنا وعلاقتنا بالأفكار والقيم التي نريدها أن تسود، كما يشكل أرضية مشتركة لنا مع غيرنا، أرضية قائمة على قوانين منضبطة ومعروفة.

لكن تقرير فكرة استنجاد المأمون وغيره بالفكر الأرسطي لمواجهة (الغنوص المانوي والعرفان الشيعي) يستبطن مسألة قد لا تكون مسلمة لدى الجميع، وهي أن العقل العربي كل أدواته الدينية والفلسفية لم يكن قادرا على مواجهة هذه الأفكار، وهنا يطرح سؤال من قبيل: هل كان ذلك قصورا في الأدوات المعرفية للثقافة العربية والإسلامية أم تقصير في استكناهها وإنتاج فلسفة ذاتية من داخلها لمقاومة تلك الأفكار الخارجة على نسقها المعرفي؟

وهذا يما يمكن طرحه اليوم بصيغة أخرى، في ظل التنازع الذي تشهده الأمة في توجهاتها السياسية الكبرى، وكيفية الخروج من مأزقها الراهن، وهل أزمتها أزمة فكرية بلافتة سياسية أم أزمة سياسية تحمل لافتات فكرية؟ ومتى سنعرف أصل المشكلة وسبب الأزمة؟

أم أننا نحتاج أرسطو جديدا ليفك لنا هذا الاشتباك؟