ثمة وَصْفان تكرَّرا في القرآن الكريم بشأن الكتب السماوية الثلاثة؛ التوراة والإنجيل والقرآن، وهو أن كلاًّ منها “هُدى ونور”.

ونحن المسلمين أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، نؤمن بجميع الأنبياء السابقين عليه- إجمالاً، وتفصيلاً كما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية- ولا نفرِّق بين أحد منهم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة: 285).

ونؤمن أيضًا بأن كُتبًا سماوية أنزلت قبل الكتاب الخاتم: القرآن الكريم؛ مثل صحف إبراهيم، وزبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى؛ عليهم جميعًا السلام.. لكن تحريفًا وتبديلاً وانقطاعًا دخل عليها.. ولذا كانت الحاجة إلى كتاب محفوظ يتكفل الله تعالى بحفظه؛ لأنه الكتاب الخاتم؛ فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا بالزيادة ولا بالنقصان: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).

والتوراة والأناجيل التي بين أيدينا وإن دخل عليها تحريف وتغيير، فقد بقي فيها شيء من الهُدى والنور، اللذَيْن وُصف بهما توراة موسى وإنجيل عيسى.. ليكون ما بقي شاهدًا على أصلها السماوي، وعلى ما يجمعها بما سيتلوها من كتاب محفوظ؛ من حيث إن هذه الكتب الثلاثة- التوراة والإنجيل والقرآن- أصلها الصحيح مُنزَّل من عند الله؛ لهداية الناس، ولدلالتهم على طريق ربهم وشرعه.

قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} (المائدة: 44). وقال أيضًا: {وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} (المائدة: 46).

 

وصفٌ ثلاثي مشترك

فـ”التوراة” كانت- كما يقول الشيخ رشيد رضا– (هُدى ونور)؛ أي مشتملة على (هُدى) في العقائد والأحكام، خرج به بنو إسرائيل من وثنية المصريين وضلالهم.. وعلى (نور) أبصروا به طريق الاستقلال في أمر دينهم ودنياهم (تفسير المنار، 6/ 397).

وكذلك كان “الإنجيل”.. أي مشتملاً على (هُدى) من الضلال في العقائد والأعمال; كالتوحيد النافي للوثنية التي هي مصدر الخرافات والأباطيل.. و(نور) يبصر به طالب الحق طريقه الموصِّل إليه، من الدلائل والأمثال والفضائل والآداب، كما يقول رشيد رضا، في تفسيره سورة المائدة (6/ 401).

وهذا الوصف وإن كان جاء في القرآن الكريم بحق التوراة والإنجيل- غير المحرَّفين- فإنه يصدق أيضًا على القرآن نفسه؛ فقد قال الله تعالى عنه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9). وقال أيضًا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: 52).

ويلاحظ “صاحب المنار” أن القرآن الكريم في آيات المائدة السابقة قد وصف الإنجيل بمثل ما وصف به التوراة، وبكونه مصدقًا لها، ثم زاد في وصفه عطفًا على تلك الأحوال: فجعله نفسَه هُدًى من وجه آخر، وموعظةً للمتقين.

ويذهب إلى أن هذا الهُدى الزائد وَصْف بحق الإنجيل، لعله هو ما انفرد به من المسائل الروحية والمواعظ الأدبية، وَزَلْزَلَةِ ذلك الجمود الإسرائيلي المادي، وزعزعةِ ذلك الغرور الذي كان الكَتَبَة والفَرِيسِيُّونَ من اليهود مفتونين به.

ويضيف: (والحِكمةُ مِن هذا النوع من الهُدَى والموعظةِ فِقْهُ أسرار الشريعة ومَعْرِفةُ حِكمتها والمقْصِدِ منها، والعِلمُ بأن وراء تلك التوراةِ وهذا الإنجيلِ هِدايةً أَتَمَّ وَأكمل، وَدِينًا أعمَّ وأشمل؛ وهو الذي يَجِيءُ بِهِ النبيُّ الأخِيرُ (الْبَارَقْلِيطُ) الأعْظَمُ. ولولا زِلزالُ الإنجيل فِي جُملته لتلكَ التقاليدِ، وَزَعْزَعَتُهُ لذلك الغُرورِ، وأُنْسُ الناسِ بِمَا حُفِظَ مِن تعاليمهِ عِدةَ قرونٍ؛ لَمَا انتشر الإسلامُ بين أهل الكتاب في سورية ومصر وَبَيْنَ النَّهْرَيْنِ بتلك السُّرعة).

وهنا نشير أيضًا إلى أن الإنجيل فيه زيادة من الهُدى، استوجبها ما كان عليه اليهود من قساوة وغلظة؛ حتى رأينا تعاليم الإنجيل تبالغ في الروحانيات والزهد والعفو التسامح.. فهي مبالغة جاءت ردًّا على إفراط اليهود في الدنيا، وعلى انهماكهم في الشهوات، وإيغالهم في الماديات.

ولعل الالتفات إلى ما في الإنجيل من بقايا الوحي الصحيح؛ المتمثلة في إشارات توحيدية رغم ما دخل على المسيحية من تحريف في أصلها العقدي.. والمتمثلة في الحضِّ على مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال.. لعل هذا الالتفات يثبت:

– من جهة، أن الأناجيل قد دخلها تحريف، خلط باطلاً بحق.

– وأن في الأناجيل ما يمكن أن يجتمع عليه أهل الرسالات السماوية في مواجهة تيارات الإلحاد..

– كما يثبت، من جهة ثالثة، أن القرآن الكريم والتوراة والإنجيل- في أصلهما الصحيح- خرجوا من “مِشْكَاةٍ واحدة”.. بتعبير النجاشي حين عُرض عليه ما يقوله القرآن الكريم عن مريم وابنها المسيح عليهما السلام.

يقول الشيخ الغزالي، رحمه الله: “لن تعدم في ركام المرويات التي اجتلبها الرواة من كل مكان، كلامًا عليه طابع الوحي، تطل من خلاله أرواح موسى وعيسى، وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل. ولا غرو؛ فالمأخوذ على القوم أنهم لبسوا حقًّا بباطل، وشركًا بتوحيد، وهوى الأنفس بأحكام الله؛ فكان هذا الخلط سبب ما عراهم من انحراف، بل ما عرا العالم كله- معهم- من شقوة وشرود” (نظرات في القرآن، ص: 48).

من بقايا النور

فلا ينبغي أن يصدنا علمنا بما وقع في الإنجيل من تحريف، عن رؤية ما به من بقايا وحي صحيح.. في الاعتقاد، وفي السلوك، بجانب ما بقي فيه مبشِّرا بنبي يأتي بعد عيسى عليه السلام.. بل إن بقايا الوحي الصحيح هذه، حجةٌ على من حرَّفوا وبدَّلوا، كما ذكر ابن حزم في (الفِصَل في الملل والأهواء والنحل)، إذ يقول: “إن كفار بني إسرائيل بدلوا التوراة والزبور؛ فزادوا ونقصوا، وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم كما شاء (لا يُسأَل عما يَفعل وهم يُسألون)، (لا مُعقِّب لِحُكْمه). وبدَّل كفار النصارى الإنجيل كذلك؛ فزادوا ونقصوا، وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم كما شاء (لا يُسأل عما يَفعل وهم يُسألون)” (1/ 157)

ففي الاعتقاد جاء في إنجيل متى: (ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِبْلِيسُ إِلَى جَبَل عَال جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا، وَقَالَ لَهُ: «أُعْطِيكَ هذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي». حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ»).

وجاء في إنجيل مرقس: (فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَنًا، سَأَلَهُ: «أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟». فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى. وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ).

وأما في السلوك فقد جاءت مواعظ كثيرة، خاصة في إنجيل متى، ومنها:

(اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ؛ وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ… وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً).

ومنها: (لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ؛ لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا).

ومنها: (لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَارَبُّ، يَارَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ).

ومنها: (وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ).

ومنها: (سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ؛ لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟… وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيُّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟.. فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ).

– وأما ما بقي دالاًّ ومبشِّرًا بمجيء النبي محمد صلى الله عليه وسلم:

ما جاء في إنجيل متى: (قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي الْكُتُبِ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا! لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ).

وما جاء في إنجيل يوحنا: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ، وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ).

وجاء: (وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ).

وجاء: (لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي)

وجاء: (وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي).

تلك كانت إشارات مما بقي في الإنجيل من وحي صحيح؛ يقف شاهدًا على أصله السماوي، وحجةً على من حرفوه، وجسرًا للتواصل مع المسلمين؛ أصحاب الرسالة الخاتمة والكتاب المحفوظ.