عنوان هذا المقال جملة من حديث نبوي شريف وهو يعتبر أصلا لقاعدة فقهية أصولية مهمة جدا لكونها إحدى قواعد المقاصد الشرعية، وفيها مظهر من مظاهر التيسير، ورفع الحرج. وفروعها وتطبيقاتها كثيرة جدا ولا سيما في واقعنا اليوم.

هذه القاعدة هي قولهم: ” اختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأعيان حكما”([1]).

أي أنه: إذا تبدل سبب تملك شيء ما عد ذلك الشيء متبدلا وأنه شيئ آخر غير الأول، وإن لم يتبدل هو حقيقة ([2]).

فمتى ما تغير السبب المقتضي لحكم ما في ذات معينة كان ذلك بمثابة اختلاف العين، ووجود عين أخرى، أو شيء آخر قد يختلف حكمه عن حكمه المبني على السبب الأول.

وإن كانت الذات المعينة لم تتغير حقيقة؛ لأن تبدل سبب الملك قائم مقام تبدل الذات، وعامل عمله حكما، وإن لم يتبدل هو حقيقة.

ومن ألفاظ القاعدة: قولهم:” اختلاف الأسباب يوجب اختلاف المسببات”([3]).

وقولهم: “تبدل سبب الملك قائم مقام تبدل الذات”([4]).

وقولهم: ” تبدل الملك كتبدل العين “([5]).

وقولهم:” اختلاف الأسباب بمنزلة اختلاف الأعيان” ([6]).

وممن نص على هذه القاعدة تعليلا، أو تأصيلا ابن الهمام في فتح القدير، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن، وابن عبد البر في التمهيد.

وقد نصت كتب الفقهاء على اختلاف مشاربها، ومذاهبها على ذكر هذه القاعدة، تصريحا أو تلميحا، كما دلت فروعهم وتعليلاتهم، الفقهية على اعتبارها.

جاء في فتح القدير لابن الهمام الحنفي: ولما كان تبدل الملك فيما إذا باعه بمنزلة تبدل الذات لم يبق ما ثبت بحكم الملك الأول من يده الحكمية ([7]).

وأجاز المالكية أن تعود الصدقة بالميراث إلى من تصدق بها دون كراهة ، وكذلك رجوع الهبة مطلقا بأي سبب ، وأن من بيده مالا حراما فاشترى به داراً أو ثوباً من غير أن يكره على البيع أحداً فلا بأس أن يشتري منه غيره تلك الدار أو الثوب ؛ مما يدل على أن الحرام لا ينتقل مع انتقال المال بسبب مشروع ، وعند الشافعية يجوز شراء الزكاة ممن صارت إليه لكن مع الكراهة ، وفي التخلص من المال الحرام نص النووي في المجموع على أنه لا يكون حراما على الفقير إذا دفع إليه بل يكون حلالا طيبا ، ونص الحنابلة على جواز رجوع الزكاة إلى من بذلها بالميراث.([8])

قال ابن عبد البر: (وكل العلماء يقولون إذا رجعت إليه بالميراث طابت له) ([9]).

ومن ذلك أيضا القول بجواز رهن المبيع في ثمنه وأن العين تأخذ جميع أحكام الرهن وتكون أمانة بيد البائع لا يضمنها دون تعد أو تفريط ؛ لهذه القاعدة وهي أن اختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأعيان حكما فكأن عين المبيع بعد وضع البائع يده عليه رهنا ليس هو المبيع الأول بل صار رهنا فيأخذ حكم الرهن لا حكم المبيع قبل تسلميه للبائع.

فهذا كله من تطبيقات هذه القاعدة الأصولية الفقهية ؛ لأن اختلاف سبب الملك يوجب اختلاف العين حكما ، وإن كانت هي ذاتها ؛ لاختلاف سبب الحوز.

ومما يستدل به لهذه القاعدة أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية ، وإنها ماتت، قال: فقال: «وجب أجرك ، وردها عليك الميراث».([10])

والشاهد منه أنه صلى الله عليه وسلم أجاز لهذه المرأة أن تأخذ ما تصدقت به مع أن الرجوع في الصدقة منهي عنه، وذلك عن طريق الإرث.

وقد يقول قائل إن هذا السبب غير اختياري وفرق بين العود بالسبب الاختياري وغيره، وهنا يستدل أيضا للقاعدة بما ورد في قصة اللحم الذي أهدته بريرة للنبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: إنه تصدق به عليها، فقال: ” هو عليها صدقة وهو لنا هدية “([11])

وبوب الإمام البخاري لهذا الحديث بقوله: باب إذا تحولت الصدقة.

وبوب مسلم: باب إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم ولبني هاشم وبني المطلب، وإن كان المهدي ملكها بطريق الصدقة. وبيان أن الصدقة، إذا قبضها المتصدق عليه، زال عنها وصف الصدقة، وحلت لكل أحد ممن كانت الصدقة محرمة عليه.

وجاء في فتح الباري عند شرح هذا الحديث: أن تلك الهدية بعينها خرجت عن كونها صدقة بتصرف المتصدق عليه فيها.([12])

فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم أقام تبدل سبب الملك، من التصدق إلى الإهداء، فيما هو محظور عليه، وهو الصدقة، مقام تبدل العين، وهذا هو مقتضى القاعدة ، وهذا سبب اختياري لا اضطراري.

 


([1]) فتح القدير لابن الهمام ج6ص435.

([2]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام ج1ص98.

([3]) فتح القدير لابن الهمام  ج3ص344.

([4]) مجلة الأحكام العدلية ص 28.

([5]) القواعد الفقهية وتطبيقاتها للزحيلي ج1ص527.

([6]) القواعد والضزابط الفقهية المتضمنة للتيسير، لعبد الرحمن بن صالح ج1ص71.

([7]) فتح القديرلابن الهمام  ج9ص299.

([8]) شرح الخرشي مع حاشية العدوي ج7ص115، والتاج والإكليل لمختصر خليل ج6ص593، والمجموع للنووي ج 6ص193 وج9ص351، والمغني لابن قدامة ج4ص102.

([9]) التمهيد لابن عبد البرج2ص260.

([10]) مسلم باب قضاء الصيام عن الميت الحديث رقم :(1149).

([11]) البخاري الحديث رقم :( 1495) ومسلم الحديث رقم (1075) واللفظ للبخاري.

([12])  فتح الباري لابن حجر ج 3ص357.