اتسمت معظم كتب العقيدة الإسلامية في التراث الإسلامي بعرضها قضايا أصول الدين من منظور الفرق الإسلامية الكبرى. وولّد ذلك إشكاليات كبيرة وخطيرة على الأمة لا زال أثرها إلى يومنا هذا، كما انبثقت من تلك المنهجية إشكاليات تفرق الأمة إلى واقعنا المعاصر، إذ من مستلزماتها عدم القدرة على تقديم قضايا أصول الدين من منظور ما يجمع المسلمين. صحيح أن تلكم المنهجية كانت سليمة ولا بدّ منها آنئذٍ؛ حيث كانت عبارة عن حوارات وأجوبة تلبي حديث الساعة، وتملأ الإشكالية الجديدة الطارئة والفراغ القائم. لكن الهدف من تعليم العقيدة الإسلامية في عصرنا هذا لا يقوم على التداعيات والإشكالات التي قامت عليها قديما، فوجب تغيير الأسلوب والمنهج والخطاب لتغيّر الدافع والهدف من التأليف وتغيير النمط المعيشي العام للناس، وما صاحب ذلك من مبادئ أخلاقية عالمية لا ترفض دينيا.

الكتاب الذي بين يدينا عُنون بــ: التعريف والإرشاد بعقائد أهل السنة والجماعة. ألفه محمد يوسف إدريس (لم أجد له ترجمة، ولا كتاب آخر مؤلف)، وهو كتاب جديد، أول عهدي به هو معرض الكتب الدولية 2017 التي تقام سنويا في ماليزيا؛ نزلت الطبعة الأولى منها سنة 2016، من مطبوعات دار النور المبين بالأردن. تمحور الكتاب حول أربع إضاءات -كما أسماه المؤلف-، في ثلاثة أقسام، انصهر لبّ الكتاب وفكرته في الإضاءة الأولى (ص23 – 86)، والتي عنيت بتحديد مفهوم أهل السنة. وقامت الإضاءة الثانية على الإلهيات، وأسماه أيضا القسم الأول، وهو إضاءة أولى وقسم أول معاً.

تضمنت الإضاءة الثانية أربعة أبواب  (87 – 209). وأتت الإضافة الثالثة -وهو القسم الثاني- على مباحث النبوات (210 – 270)، ولم تقسم عناوينه لا إلى أبواب ولا إلى مباحث على خلاف القسم الأول. والأمر صحيح في الإضاءة الرابعة -والقسم الثالث- التي عنيت بدراسة السمعيات، لكن المؤلف استخدم هنالك تقسيما من نوع آخر؛ فناقش أربعا وعشرين قضية، أتى كل قضية من قضايا السمعيات تحت عنوان العقيدة السمعية الأولى، العقيدة السمعية الثانية.. وهكذا (271 – 396). وانتهى الكتاب في خاتمته بأبواب الكفر والجحود والإساءة إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

الهدف من تأليف الكتاب

مما لا ريب فيه أن المصنف لم يبذل جهده ووقته في تأليف الكتاب لعجزٍ قائم في المصنفات المبينة للعقيدة الإسلامية. ألف الكتاب لتثقيف عامة المسلمين بأن الأشاعرة هم أعيان أهل السنة والجماعة في التاريخ الإسلامي وإلى جانبهم الماتريدية، لا كما شاع عند شيخ الإسلام ابن تيمية (661/ 728) ومن تبنى آراءه من بعده وتأثر بها، فسعَوا إلى سحب البساط من تحت الأشاعرة وإلباس لقب أهل السنة والجماعة على آرائهم خاصة. ورأى أن ذلك ليس صحيحا تاريخيا وعلميا.

بيّن في ص 14 أن عدد الأشاعرة يتجاوز المليار مسلم ومنتشرون في القارات الخمس، وهم أهل السنة، فلا بد من تثقيف المسلم بذلك وتبصيره بهذه الحقيقة. وذكر في هامش ص 36 أن أبا حنيفة هو أول متكلمي أهل السنة كما يصفه البغدادي. وبين أن هذه الحقيقة تخفى على الكثيرين من عامة المسلمين نتيجة الحملة القوية ضد علم الكلام على يد من تبنى رأي شيخ الإسلام ابن تيمية. فكل هذا يحتاج إلى بيان عكسي. وموقف المؤلف هذا يؤكد سبب تأليف الكتاب. ومما يؤكد سبب تأليف الكتاب أيضا قوله في ص58: “للأشاعرة مظاهر من الفضل لا تخفى على الباحثين، وإن خفيت على عموم الناس الذين كتب هذا الكتاب لأجلهم”. وقال في ص 84 “تعريف جماهير المسلمين بعقيدة أهل السنة والجماعة”.

إذن الهدف من تأليف الكتاب هو استجابة لردة فعل قائم أرّقَتْ المسلمين ولعبت دورا كبيرا في تمزيق وحدتهم. لكن كيف سعى الكاتب لإقناع عامة المسلمين برأيه هذا، تم ذلك بوسيلتين:

– أولاهما في الإضاءة الأولى: حيث نقل فيها تسعة عشر (19) شهادة من أعلام القرن الخامس الهجري فما بعد على أن مصطلح أهل السنة كانت تطلق على الأشاعرة (23-52)، كما نقل فتاوى وفوائد في ذلك من المتقدمين، وأخرى من المتأخرين، وأعقب بموضوع “الطاعنون في الأشاعرة” (53-74).

– ثانيهما بإعادة عرض العقيدة الإسلامية كما هي عند الأشاعرة منهجا وأسلوبا ومضمونا ورؤى، متخللا كل ذلك بالرد على موقف شيخ الإسلام خاصة. أجل، ركّز في الرد على شيخ الإسلام لإيمانه بأنه الداعي الأول إلى هذه الأفكار وهو الإمام والمصدر عند كل من اقتنع برأيه، ولذا يكثر المؤلف من إطلاق مدرسة “التيمّيين”.

ويبدو أن الكاتب تتبع بعض ما يدل على أن الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة، وأيّد ذلك بمناقشته للفكر الآخر. لكن ما يهمني هل بيانه هذا سيلعب دورا في وحدة المسلمين أو سيزيد فرقتهم؟

رؤية تحليلية للكتاب

تصعب القراءة الموضوعية للكتاب، وذلك لأن أغلب القرّاء لديهم مواقف مسبقة نتيجة ما ذكرنا من آثار المنهجية القائمة. فإما أن يكون القارئ سلفيا؛ تربى في بيئة تنتسب إلى الحديث والأثر وتلقّى علومه من مشايخ المدرسة، وإما أن يكون  أشعريا شاء القدر أن يدرس في الجامعات التي تتبنى الرؤى الأشعرية في تدريسها وتُؤصّل على ذلك. فأحدهما سيعشق الكتاب ويقدس فكرة الكاتب، والآخر سيُشَيْطِنُ الكتابَ ويحذر منه، اللهم إلا من باب الرد والنقد وبيان ما فيه من زيغ وشطط. الشأن في هذا مثل كتاب محمد سعيد رمضان البوطي: السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي. ومع ذلك لو استطعتُ أن أكون موضوعيا ومنصفا لا مائلا لهذا ولا ذاك فإني ألفت النظر إلى الآتي:

التصنيف والتهميش باسم البحث عن “الدليل الأقوى” لا يحل المشكلة لأن الإشكالية في الدليل نفسه وفهمه. ولعل المؤلف كان شديد اللهجة على المخالف “التيميين” ولم يحاول احتضانهم بحال!

توسيع النظرة، وذلك أن أصول الدين يتمثل في خطاب جعفر أمام النجاشي، وأبي سفيان أمام هرقل، وفي نصوص عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل. والأمور المتعلقة بفهم هذه الأصول نتيجة التطور الزمني أو نشوء حوادث جديدة يجب أن تُقدّم باسم الفكر والخطاب الإسلامي، ويكون محل حوار، فيكون الأشعري والسلفي بمنزلة الشافعي والحنفي، لا بمنزلة المسلم أو الكافر أو السنة والبدعة.

وبه يمكن تجازو هذه القضية التاريخية والالتفات إلى قضايا زمننا، ولعل هذا ما يحوم حوله دعاة تجديد علم الكلام، فلا يقصد عامتهم المضمون لكن خطاب العرض والمنهجية.

حاول بعض الباحثين التأليف في أصول الدين بحيث تصل الفكرة دون الوقوع في براثن هذه الإشكالية التاريخية في تأليف العقيدة، وبدون معرفة أن ثمة أشعري وماتريدي وسلفي، بل وبدون التطرق إلى القضايا الخلافية القليلة مقارنة بالأكثر المتفق عليه، من ذلك كتاب “الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاق”، وكتاب “عقيدة المسلم”، و”المحكم في العقيدة”، وكتاب “ركائز الإيمان”، و”العقائد الإسلامية”، و”العقيدة الإسلامية وأسسها”، وغيرها. وكان هدف هذه الكتب وضع منهاج جامعي أكاديمي للعقيدة وتبسيط مسائلها، وإن كانت فيها بعض الإشارات إلى الخلافات المذهبية إلا أنها لا تفرق الأمة إلى جبهتين أو قطبين متصارعين ومتقابلين.

أوصي المتخصص والمهتم بقراءة الكتاب بعين مجردة بدون سابق حكم، فالكتاب لا يخلو من فوائد، وإن أتى لطْماً قوياً لمدرسة فكرية ما! يفضل الابتعاد عن مثل هذا الأسلوب قدر المستطاع! كما أوصي أن يكون همّ العلماء ما يجمع الشمل ويوحّد الصف، لا الاصطياد في الماء العكر باسم الدليل وغيرها من المغالطات وما يصادر المطلوب من لوازم القول وترك الصريح!