قال تعالى : { ولا ينبئك مثلُ خبير } سورة فاطر : 14

القائد الناجح، رئيساً كان أم وزيراً أم مديراً، ودون كثير مقدمات وشروحات، هو ذاك المتواضع الذي يحترم من يعمل معه.

التواضع واحترام الآخرين، صفتان رئيسيتان لابد منهما في أي قائد ناجح، أو يرغب في النجاح، تضاف إليهما قدرة أو مهارة فائقة، ليس للاستماع لمن معه وحوله فحسب، بل ينصت باهتمام حتى يعي ويفهم ما يُقال له.

تقع كثير من مشكلات العمل، لاسيما بين الرئيس والمرؤوس، بسبب أن الأول لا يريد أن ينصت، بل هو لا يسمع، وبالتالي لا تجده يفهم ويعي الحديث، وهذا بالضرورة يقوده إلى اتخاذ قرارات أو إصدار توجيهات، غالباً لا تصيب الهدف، فيأتيك غاضباً بعد حين من الوقت ويتساءل عن سر تدني الأداء والمستوى والإنتاج وغيرها!.

إذا أردنا ذكر صفات أخرى للقائد الناجح وبشكل سريع في هذه المقدمة، وقبل الدخول في لب موضوع اليوم، فإننا نذكر من تلك الصفات، أنه يتقبل النقد الهادف بكل رحابة صدر، ويتميز بسمعة واسعة مفادها أنه من القلائل الذين يسعدون بجلب وتعيين من هم أفضل وأقوى منه في العمل، لا يخشى منهم، بل يعتبرهم إضافة حقيقية له وقوة يستعين بها على تحقيق مقاصد وأهداف المؤسسة، أو الشركة، أو الحكومة، أو الدولة بشكل عام.

ثم هو يثق في قدراته، لكنه مع ذلك يدرك قيمة العمل الجماعي أو العمل بروح الفريق الواحد، فتراه بسبب ذلك يستشير هذا وذاك، ويسأل الصغير والكبير، ويستفيد من خبرة وعلم كل من معه، فلعل أحدهم يكون معه مفتاح الإبداع دون أن يدري، فتكون مهمته كقائد أن يتعرف عليه ويتعاون معه لفتح مغاليق الإبداع، ليكون الاثنان سبباً في أي نجاح إن حدث، حيث لا تجده ينتهز الموقف والمنصب ليستولي على النجاح، وينسبه إلى شخصه، بل هو يشارك الجميع فيه.

الخبير قولاً وعملاً

المقدمة السابقة شبه الطويلة عن القيادات والكفاءات كان لابد منها، ونحن ندخل في موضوع بالغ الأهمية ويتعلق بالمستشارين أو الخبراء، الذين تجد أمرهم يدخل تلقائياً ضمن سياق أي حديث عن الإدارة والكفاءة والنجاح، وأهمية اختيار المستشار أو الخبير بعناية فائقة، حتى يكون صاحب مهمة معينة فعلية، لا أن يتحول إلى تحفة فنية في مكاتب الوزراء والقادة!.

اختيار المستشارين أو الخبراء والمعاونين، مسألة أجدها غاية في الأهمية لمن أراد أن يدير مؤسسته، أو شركته، أو وزارته، أو دولته بكل أمانة ودقة، سواء كان يرجو بذلك وجه الله ورضاه، أو يرجو تحقيق مصالح ومكاسب دنيوية ترفع من شأنه واسمه، ولن نختلف ها هنا حول المقاصد النهائية، بحثاً عن دنيا عاجلة أو رجاء آخرة باقية، لأن الحديث يدور حول آلية اختيار المساعدين والمستشارين ومن يستعين بهم الرئيس أو الزعيم أو القائد لإدارة شؤون الدولة، أو الوزارة، أو الشركة، أو ما شابه من كيانات إدارية، صغرت أم كبرت.

من هو الخبير ومن هو المستشار؟

الخبير هو ذاك المهني صاحب الدراية المتعمقة بمجال معين محدد، يعرف تفاصيل ودقائق الأمور فيه، كأن نقول: هذا خبير اقتصادي في مجال الكشف عن مواقع النفط مثلاً.

أما المستشار فهو صاحب باع طويل وواسع في مجال ما، يعرف علاقات وقوانين وأنظمة مرتبطة بهذا المجال، كأن نقول: مستشار تربوي لوزير التربية والتعليم مثلاً.

الخبير يُطلب منه الرأي في مجاله، فيقدمه للطالب، والمنطق السليم يقتضي الأخذ برأيه، أما المستشار، فإنه يبدي رأياً للمسؤول حين يُطلب منه أو يبادر بعرض وجهة نظره أو رأيه، لكن الفرق بينه وبين الخبير، أن المستشار قد يؤخذ برأيه أو يُرد. والمنطق الإداري السليم ها هنا أن رأيه غير ملزم للمسؤول، الذي ربما يكون محاطاً بعدد من المستشارين، في حين يكون رأي الخبير – كما يقتضي المنطق الإداري السليم – أقرب إلى الإلزام أو القبول به، إذ لا يوجد سبب مقنع وجيه لرفض رأيه من المسؤول، إلا إذا وجد رأياً أكثر وجاهة وعمقاً من خبير ثانٍ يفوق الأول، عمقاً ودقة في علمه وخبراته.

من هنا تأتي الآية الكريمة تبين مكانة الخبير في قوله تعالى { ولا ينبئك مثلُ خبير } أي: ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه، مثل خبير بها – كما جاء في تفسير ابن كثير – على رغم أن بعض المفسرين قالوا إن الله في هذه الآية، يعني نفسه تبارك وتعالى، فإنه أخبر بالواقع لا محالة، ولكن بعضاً آخر من المفسرين رأى في الآية إشارة مهمة إلى منزلة الخبرة، التي يصل إليها أي مشتغل وباحث في مجال محدد، والتعمق في تفاصيله ودقائقه.

الرسول قدوتنا في مسألة الخبراء والمستشارين

النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – بخبرته في الحياة والتعاملات مع البشر، ومعرفة شخصياتهم وأنماط تفكيرهم وسلوكياتهم ومهاراتهم، كان دقيقاً في اختيار مستشاريه والخبراء الذين أحاط نفسه بهم، سواء على المستوى السياسي أو العسكري أو غيرهما من مجالات، فقد كان دقيقاً مثلاً في اختيار أمراء السرايا وقادة المعارك وغيرها من المهام الحياتية المتنوعة آنذاك، في قصة رفع الأذان المعروفة، جاءه أحد الأنصار وهو عبدالله بن زيد الأنصاري، بعد رؤية صالحة رأى فيها ما يقوله المؤذنون اليوم، وقد توافقت رؤياه رؤية عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ورغب أن يكون له شرف القيام بمهمة رفع الأذان، لكنه – صلى الله عليه وسلم – لم يوافق له على رغبته، لعلمه أن بلالاً أندى صوتاً من الأنصاري، فاختار بلال بن رباح ليكون مؤذن المدينة.

قصة غاية في البساطة، لكنها إشارة إلى أهمية أن يكون القائد على دراية بمن معه، فقد كانت له – صلى الله عليه وسلم – رؤيته الثاقبة ونظرته إلى الرجال، وكأنه يعلمنا أنه ليس دوماً وليس شرطاً أن تكون بعض المعايير التي نتفق عليها بشأن اختيار القادة والمسؤولين أو الخبراء والمستشارين، صحيحة، فلكل مهمة قائد أو شخص معين، وفي الوقت ذاته ليس بالضرورة أن ينفع هذا الشخص في مهام أخرى، أو إن نجح فلان في مهمة، فليس شرطاً أن ينجح في مهمة أخرى، وهكذا.

اختيار الخبراء والمستشارين ليس مكافأة نهاية خدمة

نستخلص مما سبق أهمية وضرورة التأنّي لدى أي مسؤول حين يقوم باختيار معاونيه، أو مستشاريه، أو خبرائه، إن أراد النجاح في مهمته، الأمر لا يجب أن يكون نوعاً من المكافأة أو شراءً للذمم أو أهداف أخرى، بل لابد أن يكون اختيار المستشارين أو المعاونين أو ما شابههم في المهام، بعيداً عن نظام المحسوبيات والمجاملات، سواء لمن يتم اختيارهم أو لمن قام بتزكيتهم وترشيحهم، الأمر أكبر وأخطر من ذلك بكثير.

اختيار المستشارين ربما يأتي مقدماً على اختيار الخبراء، باعتبار أن المستشار يكون أقرب للمسؤول ويبدي الرأي في مجال أوسع نطاقاً من الخبير، ومن هنا لابد أن يكون اختيار المستشارين وفق معايير محددة تشمل الكفاءة والخبرات المتراكمة اللازمة في المجال الذي يتم اختياره له، بالإضافة إلى ضرورة تمكنه من كثير من المهارات الشخصية، كالتفكير الناقد وتحليل المشكلات، والقدرة والإبداع في ابتكار وتقديم الحلول بتجرد وموضوعية، دون نزوع إلى ترضية هذا وذاك على حساب المصلحة العامة أو الكبرى.

المسألة في النهاية أمانة، والأمانة هي كل ما تم الائتمان عليه من قول، أو عمل، أو مال، أو علم، وأي اتباع للهوى والمزاج في تقديم الاستشارة للمسؤول، إنما هو أقرب إلى خيانة الأمانة، فقد يسير موكب الكيان الإداري، سواء كان على شكل شركة، أو مؤسسة، أو وزارة، أو دولة، بيسر وأمن وأمان ونجاح واستقرار، حين يقوم الجميع بأداء مهامهم بأمانة واقتدار، ونقيض ذلك يؤدي بالضرورة إلى التخبط وعدم استقرار، ومن خسارة إلى أخرى، وصولاً إلى انتكاسة أو أعمق من ذلك وأعقد، والأمثلة من هنا وهناك أكثر من أن نحصيها، كان للمستشارين تحديداً وربما أحياناً بعض الخبراء أو المعاونين، دورهم في النجاحات أو الانتكاسات.

تقع النجاحات حين يقوم المستشارون أو الخبراء والمعاونون بأدوارهم بكل أمانة وجدارة واقتدار، فيما الانتكاسات تزلزل الكيانات إن تخلى أولئك عن أماناتهم وعهدهم، متبعين أمزجتهم وأهواءهم، بل ربما أهواء غيرهم أيضاً على حساب المنفعة العامة، وعلى رغم علمنا جميعاً أن الله يحب أن تؤدى الأمانات إلى أهلها كاملة غير منقوصة، إلا أن الواعين لمثل هذه القبسات القرآنية قليل قليل.