في العربية كتب كثيرة تتحدث عن غيرها، بعضها من باب الصنعة كالفهرست مثلًا، وأخرى تدخل من باب صحبة الكتب كما فعل العقاد في بعض كتبه. لكن الكتب التي تتحدث عن القراءة ليست بذات عدد، ولا نجد فيها -نحن معاشر القرّاء- إلا أصوات الآخرين تنصح بالقراءة وتحث عليها. هنا أصبح الكتاب مادة “وعظ” ثقافي؛ يُحَثّ على الصلة به والسعي إليه ولكن يغيب تصور “الامتزاج” به.

تعاني القراءة اليوم في وطننا العربي من عثرات عدّة؛ سبّبتها عوامل مختلفة نصرخ بها ونطيل العويل ونستخدمها للازدياد من جلد الذات ولكنّنا لا نسعى لعلاجها. نعم، ثمّة ما يبشّر هنا وهناك من أخبار القراءة، ولكنّنا بحاجة إلى المزيد حتى تغدو القراءة قوتاً لا نستطيع الحياة إلا بها.

كان كتاب أستاذنا الدكتور محمد الأحمري (مذكرات قارئ) حصيلة صحبة مع الكتاب امتدت عبر السنين والأمكنة والأغلفة المختلفة. صحبة جعلت من القراءة عينا يُرى بها العالم، وجعلت من الكتب فنارات يستضاء بها في عتمات السبل المتفرّقة. لقد أودع أستاذنا في هذا الكتاب عينيه الّلتين صافحتا الكتب بكرة وعشيّاً.

لقد اعتادت عين أبي عمرو على تقبيل الحروف حتى رأت كل كاف تدخل على كلمة تحوّلها إلى “مكتبة” (كقصته عندما رأى [مطعم مكة] ص 156-157).

يفتتح أستاذنا كتابه بالحديث عن بداية القراءة كواجب، ثم كيف تطوّرت حتى أصبحت “طبيعة وخلقًا ومزاجًا (مذكرات قارئ 6).

وأرجوك يا قارئي العزيز أن تتأمّل كيف أن تصبح القراءة خلقًا، (يا إلهي ما أعظمها من كلمة).  والأستاذ يسير بقارئ كتابه سيرًا لا نجد فيه من عثرات الكتب ما يعيق انسيابية القول، ولا مللًا يجعل القارئ يطرح الكتاب جانبًا (أو ينساه عمدًا في الطيّارات كما فعل أستاذنا مع بعض الكتب)؛ بل وضع قراءات عمره وسيرة جيله ومن أثّر في هذا الجيل من الكتّاب والكتب.

إنها سيرة ممزوجة بالمداد، ومنسوجة بالحروف، ومرصّعة بأخبار قرّاء عظام علت بهم القراءة والكتابة معًا على مدار التاريخ.

سيجد القارئ في الكتاب أخبارًا عن أسماء قد لا يجدها في مكان آخر؛ إما لأنّ بعضها سيرة ذاتية لن يرويها لك أحد أفضل من صاحبها، أو لأنّ بعض هذه القصص تغفل عنها بعض الكتب أو تتفلّت من قبضتها.

يروي أستاذنا أخبار من علّموه وإضاءاتهم على طلبتهم؛ من ذلك حديثه عن أستاذه الشيخ (يحيى معافى) رحمه الله، وكيف كانت حكمة هذا الأستاذ أمام موقف تلميذه العنيد من محمد عبده ومدرسته.

وكذلك تحدّث عن غيره من أساتذته في أبها وغيرها وكم كان حظ جيله عظيمًا بمثل تلك العقول (ص 85-89).

لقد كانت هذه الحميمية، التي بثّها الأستاذ في ثنايا الكتاب، صلة نور جعلت من قراءة هذه السيرة (القرائيّة) وكأنها جلسة ولقاء بالكاتب نفسه، وليس اتصالًا تقف أمامه صفحات وحجب وهمية كانت أو حقيقية.

فالأستاذ يعلم كقارئ أنّ في عالم القراءة الكثير من الأوهام تبنيها الكتب فينا ثم تدعنا وهي تضحك ملء صفحاتها!

يتحدث الأستاذ كذلك عن الكتابة في الفصل الثالث والذي يستعير له عنوان كتاب للعظيم جبرا إبراهيم جبرا (معايشة النمرة).

وبالرغم أنّني ممّن يؤمن بأن الكتابة حالة خاصة (وأحسب أستاذنا كذلك) لا يملك إشكالياتها وحلولها مثل صاحبها نفسه؛ فلا تنفع معها مثلًا عقاقير النصائح المختلفة فهي مرض لا كالأمراض.

بيد أنّ هذا الفصل مليء بما يخفّف من غلواء الكتابة على من استعصت عليه، وفيه من الأمل أو حتى العزاء لمن أضرمت الكتابة في جوفه أنواع الحرائق. قد يستعين أحدنا بما في هذا الفصل بما له صلة مشتركة بين كل الكتابات (كالكلام عن الإيجاز مثل، ص 226). والأستاذ يرى عمومًا بشأن الكتابة ما يراه بشأن القراءة؛ أنّ إيجاد كل منا لطريقته الخاصة خير من ضياع النفس في طرق الآخرين.

ربما كان هذا الفصل تنبيهًا إلى أنّ الكتابة الجيدة هي نتيجة القراءة الجيدة، وكان موضعه بين فصول تتحدث عن القراءة تأكيدًا على أنّ طرفي الكتابة قراءة جادّة.

كان حديث الأستاذ عن الشيوعية وكتبها وكتّابها طريفاً جداً (انظر ص321-333)، وقد كان أثناء ذلك رسّاماً مبدعاً؛ إذ وصلت ألوانه إلى أغلفة كتب الشيوعيين وألبستهم. لا شك أنّ الشيوعية كانت بالنسبة لجيل الأستاذ ركنا من أركان آلام بعضهم أو أوهام آخرين. إذ ذاق البعض من ويلاتها، في عالمنا العربي وغيره، ما يجعل من ذلك روايات تنضح بالحقيقة المرّة والدموية. وتسلّق البعض الأوهام فاعتنقوا الشيوعية في أرجاء المعمورة وكان (الولاء والبراء) يحوم حول رموزها بشكل خرافي تافه.

ولكن كل ذلك أعطى للكتاب مذاقاً يطرد كسل العقول ويجعل من القراءة مشاركة وحثّاً على الأسئلة ومراجعة لما يُقرأ رفضًا أو قبولًا.

إنّ كتاب أستاذنا يبث القراءة كـ(فن) وطريقة حياة. يجعل منها نفسًا إذا غاب اختنقت جرّاء ذلك القلوب والعقول. وربما كان هذا الكتاب دعوة لكل قارئ بتسجيل سيرته مع الكتب، وبابًا نلج منه إلى سعة الصفحات وسحر الحروف. وكما قلت عنه مرّة “فيه [الكتاب] ما يجعلنا معاشر القرّاء نشمخ برؤوسنا ونقول للعالم: “يا قرّاء العالم اتّحدوا”

وهل أطلّ ماركس برأسه هنا، أقول هذا من نتائج القراءة.