مع كثرة الحروب والجوائح التي تمر ببلاد الإسلام، وما نتج عن ذلك من يتم آلاف بل ملايين من الأطفال، كانت الحاجة ماسة إلى إحياء كفالة اليتيم؛ كأحد أهم الأدوات الاجتماعية في الحفاظ على لحمة المجتمع المسلم، وللأجر الكبير المترتب على هذا الواجب، فإن كافل اليتيم في الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم. فما هي الكفالة؟ وما معناها؟ وكيف تكون؟

جعل الله تعالى كفالة اليتامى من أحب القربات إليه، وأعظم الحسنات عنده، وجعل كفالتهم واجبا شرعيا، كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220]، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم ثواب كافل اليتيم رفقته في الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم:” أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين”. رواه مسلم.

قال المناوي في فيض القدير (4/ 543): ” وقد تطابقت الشرائع والأديان على الحث على الإحسان إلى اليتيم وحق على من سمع هذا الحديث العمل به ليكون رفيق المصطفى صلى الله عليه وسلم في الجنة ولا منزلة أفضل من ذلك، وفيه إشارة إلى أن بين درجة النبي صلى الله عليه وسلم وكافل اليتيم قدر تفاوت ما بين السبابة والوسطى. (و) من كلام داود عليه السلام: كن لليتيم كالأب الرحيم واعلم أنك كما تزرع تحصد. رواه الطبراني وكذا البخاري في الأدب المفرد”.ا.هـ

وجاء أيضا في فيض القدير (6/ 37): ” قال الحكيم: إنما فضل هذا على غيره من الأعمال؛ لأن اليتيم قد فقد تربية أبيه وهي أعظم الأغذية لتعهده لمصالحه، فإذا قبض الله أباه فهو الولي لذلك اليتيم في جميع أموره ليبتلي به عبيده؛ لينظر أيهم يتولى ذلك فيكافئه. والذي يكفل اليتيم يؤدي عن الله ما تكفل به؛ فلذلك صار بالقرب منه في الجنة، وليس في الجنة بقعة أشرف من بقعة بها سيدنا محمد وسائر الرسل صلى الله عليه وعليهم وسلم، فإذا نال كافل اليتيم القرب من تلك البقعة فقد سعد جده وسما سعده. قال الحرالي: في ضمنه تهديد في ترك الإحسان له، فمن أضاع يتيما ناله من عند الله عقوبات في ذات نفسه وزوجه وذريته من بعده ويجري مأخذ ما تقتضيه العزة على وجه الحكمة جزاءا وفاقا وحكما قصاصا؟” أ.هـ

معنى كفالة اليتيمعند العلماء

قال البرماوي في اللامع الصبيح بشرج الجامع الصحيح (13/ 432):(وكافل اليتيم)؛ أي: القائم بأمره، ومصالحه.ا.هـ، وكذا قال النووي وغيره.
وجاء في كتاب المسالك في شرح موطأ مالك لابن العربي (7/ 483):” في هذا الحديث فضل عظيم في كافل اليتيم وضمه إلى بنيه ومائدته، وأنفق عليه من طوله، نال ذلك، وحسبك بها فضيلة وقربة من منزل النبي – صلى الله عليه وسلم – في الجنة، فليس بين الوسطى والسبابة في الطول ولا في اللصوق كثير، وإن كان نسبة ذلك من سعة الجنة كثير”.

وقال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في تحقيقه  لشرح النووي على مسلم (18/ 113):
(كافل اليتيم) القائم بأموره من نفقة وكسوة وتأديب وتربية وغير ذلك وهذه الفضيلة تحصل لمن كفله من مال نفسه أو من مال اليتيم بولاية شرعية (له أو لغيره) فالذي له أن يكون قريبا له كجده وأمه وجدته وأخيه وأخته وعمه وخاله وعمته وخالته وغيرهم من أقاربه والذي لغيره أن يكون أجنبيا].ا.هـ

وجاء في شرح السيوطي على مسلم (6/ 290): ” كافل الْيَتِيم هُوَ الْقَائِم بأموره من نَفَقَة وَكِسْوَة وتأديب وتربية وَغير ذَلِك.

ويبين ابن حجر العسقلاني سبب هذه المكانة لكافل اليتيم كما في فتح الباري (10/ 437):  ” قال شيخنا في شرح الترمذي: لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يشبه في دخول الجنة أو شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبي أو منزلة النبي لكون النبي شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم، فيكون كافلا لهم ومعلما ومرشدا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه ويرشده ويعلمه ويحسن أدبه فظهرت مناسبة ذلك ا.هـ

فالكفالة هنا ليست مجرد دفع مبلغ رمزي شهريا لليتيم، وليس من الدين الترويج عبر الجمعيات الخيرية أن من تصدق بمبلغ شهريا فقد كفل يتيما، وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، فتلك صدقة على اليتيم، وليست كفالة يتيم،  وإنما الكفالة أن تنزله منزلة ولدك، من الرعاية والعناية والتربية، فهتم به وتكون مسئولا عنه كما أنت مسئول عن أولادك،  فتلك هي كفالة اليتيم التي حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم. بمعنى أن تكون رعاية اليتيم رعاية شاملة، من الرعاية المادية، والرعاية النفسية، والرعاية الاجتماعية، والرعاية البدنية، والرعاية الصحية، والرعاية التربوية، فتلك الرعاية الشاملة هي التي تجعل اليتيم قادرا على التفاعل مع المجتمع، وأن يكون عضوا فاعلا فيه، لا متسولا عليه.

يتامى حكام وعلماء:

ولما قام المجتمع المسلم بكفالة اليتامى، خرج عدد منهم أئمة أعلاما للهدى والدين، كالإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، والإمام الأوزاعي والإمام البخاري، والقاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وابن حجر شارح صحيح البخاري، وتلميذه الإمام السخاوي، والإمام ابن الجوزي من أعظم المؤلفين في العالم، والإمام ابن الملقن الذي كتب أكثر من ثلاثمائة مؤلف، والإمام السيوطي صاحب التصانيف الكثيرة، له أكثر من ستمائة مصنف، ومنهم أحد أكبر خلفاء المسلمين عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك خليفة المسلمين في الأندلس وغيرهم كثير.

فلم يكن اليتم مانعا من تحصيل علم أو تحصيل إمارة، على أن هذا بعد فضل الله تعالى جاء ثمرة جهد كفالة اليتيم، كفالة شاملة، لا مجرد دفع مال، فدفع المال لليتيم، يسمى صدقة على اليتيم، أما الكفالة التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم وجعلت صاحبها من أوائل من يدخل الجنة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهي عمل وتربية ورعاية وكفالة وعناية وتنمية وجهد مبذول؛ لينال صاحبه هذا الأجر.

وما أعظم الإسلام الذي يجعل فاقدي الآباء في رعاية المجتمع، فإن فقد أحدهم أباه؛ فله آباء كثر، يتسارعون إلى رعايته، وتلك عظمة هذا الدين.