لنتأمل بعض الشيء الرواية التاريخية الشهيرة حول زعيم المنافقين بالمدينة، عبدالله بن أبي بن سلول، حين قام رجل من المهاجرين بضرب رجل من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ما بال دعوى جاهلية؟، قالوا يا رسول الله: كسع (= ضرب) رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم – فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم -: دَعْه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه .. رواه البخاري .

وفي واقعة أخرى يحدث جابر بن عبد الله يقول: لما قسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غنائم هوازن بين الناس بالجعرانة قام رجل من بني تميم فقال:  اعدل يا محمد!! فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل.. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ألا أقوم فأقتل هذا المنافق ؟ قال:  معاذ الله أن تتسامع الأمم أن محمداً يقتل أصحابه، ثم قال النبي – صلى الله عليه وسلم-: إن هذا وأصحاباً له يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم.. رواه أحمد .

مثالان رائعان يصلحان لكل زمان ومكان في النظر إليهما بعمق، ليتعلم المرء، لاسيما صاحب القوة والبأس والسلطان، والاقتداء بخير البشر، في كيفية التعامل مع الآخرين، لاسيما المخالفين وحتى الأعداء أو المنافقين. فهذا هو النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وهو في بدايات بناء الدولة، حيث الحاجة ماسة يومها إلى كل دعم وتعزيز، وخاصة أن الأخطار والمهددات الداخلية أو الخارجية كثيرة حينها لم تنته بعد، وعلى وجه أخص تلك المهددات الداخلية التي كان أثرها أشد وقعاً وتأثيراً على التماسك الداخلي للدولة والأفواج الأولى من شعب تلك الدولة..

إن أي متأمل للروايتين سينظر للأمور كما نظر إليها الفاروق عمر في المثالين أعلاه، فإن ما قام به ابن سلول على سبيل المثال، هو أشبه بما نسميه اليوم، زعزعة الصف الداخلي وإثارة فتنة، طائفية كانت أم عرقية أو ما شابهها من فتن، والتي عادة ما تستوجب عقوبة مغلظة، كالاعتقال والسجن لفترة طويلة.. لكن المنطق النبوي يختلف، ومدى رؤية الأمور عند صاحب الأمر والقرار أوسع وأبعد بكثير من أي صحابي مهما كان مقرباً إليه صلى الله عليه وسلم..

كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، يرى أن دولته الفتية مراقبة من الجميع، إذ الكل يترقب وينتظر ما سيفعل هذا القائد الجديد بدولته الجديدة، وقد كانوا مبهورين بأخلاقه وإدارته لأصحابه والآن دولته، فماذا عسى أن يفيد سمعة الدولة وقبلها سمعة الاسلام إن كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يغضب لنفسه؟

لم يستخدم النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، صلاحياته لردع رأس المنافقين يومذاك، ولا الآخر الذي يتهم رأس النظام أو رئيس الدولة في أمانته، فإن إشارة منه إلى أي صحابي يومها، كانت كفيلة بانهاء حياتهما، لكنه نبي وبعد ذلك رئيس دولة وصاحب دعوة، يرى ما هو أهم من جز عنق منافق ربما يهلل الجميع لموته، بسبب ما كان يصدر عنه من أذى للمسلمين وإثارة للفتن بينهم..

كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، يرى أن دولته الفتية مراقبة من الجميع، إذ الكل يترقب وينتظر ما سيفعل هذا القائد الجديد بدولته الجديدة، وقد كانوا مبهورين بأخلاقه وإدارته لأصحابه والآن دولته، فماذا عسى أن يفيد سمعة الدولة وقبلها سمعة الاسلام إن كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يغضب لنفسه؟ وما فائدة أن يقتل منافقاً ولو كان مؤذياً للإسلام والمسلمين أو منافقاً آخر مدفوع لتشويه سمعة رأس الدولة الذي كان يتمثل في الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ؟ لم يغضب لنفسه ولكن كان يغضب لله، ومن هنا لم ينصت ولم يسمح لولد عبدالله بن سلول أن يقتل أباه، بل قال له: لا، ولكن بر أباك، وأحسن صحبته ! ورد على طلب عمر أن يقتل ذاك الذي اتهم رسول الله في أمانته، فقال له:  دَعْه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه..

هنا التوجيه الصحيح في كيفية التعامل مع المخالف، وهذا ما نفتقده اليوم عند أصحاب القرار والسلطان والبأس في كثير من الأقطار.. إن أسهل ما يمكن أن يتخذه أي صاحب قرار اليوم مع مخالفيه أو منتقديه هو قهرهم بأي وسيلة ممكنة أو منعهم مما هم فيه وعليه أو سجنهم أو نفيهم أو حتى قتلهم.. لكن الصعوبة والمشقة والتحدي الكبير في مثل تلكم الحالات، تتمثل في الصبر على المخالف، ومناقشته ومحاورته، فلعله يتغير أو تتغير الظروف المحيطة به، فإما أن يميل نحوك أو يكف شره عنك، وكلاهما خير.

ما أحوجنا هذه الأيام، زعماء وقادة، ومدراء ورؤساء، أن نقتدي بخير البشر محمد صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المخالفين، فكل إنسان مخالف مهما بلغ من الشر والسوء، فلابد أن تجد به مساحة خير وإنسانية، وهي المساحة التي نبحث عنها والتي قد نغفلها حيناً أو نتغافل عنها أحياناً أكثر لحاجات في النفوس عديدة.. ومن تلك المساحة أو بقعة الضوء، يمكننا الانطلاق نحو التغيير ونشر الضياء والخير، لأنها مساحة راسخة ثابتة، عكس تلك المساحات الشاسعة الظاهرة في المخالف، التي لا يمكنك الانطلاق منها لعدم ثباتها ورسوخها..

هكذا الأنبياء وأصحاب الدعوات، يبحثون عن الخير في الآخرين مهما تضاءلت فرص العثور عليها، وهكذا يجب أن يكون عليه كل من أراد السير على درب النبيين والمرسلين، وإلا فالدروب أكثر من أن نحصيها، ولا يضمن لك أحد صلاحيتها، فاختر ما شئت وانظر ماذا ترى..